فضل الاسترجاع
عند المصيبة الخطبة
الأولى: الحمد
لله أما بعد فاتقوا
الله أيها الناس واعلموا أنَّ سُنَّة الله ماضية في عباده بأن يَبتليَهم في هذه الحياة
الدنيا بأنواعٍ من البلايا وألوانٍ من المحن والرَّزايا، فيبتليهم بالفقر تارةً وبالغنى
تارة أخرى، وبالصِّحة تارة وبالمرض تارة أخرى، وبالسَّرَّاء حيناً وبالضَّرَّاء حيناً
آخر، وليس في النَّاس إلاَّ مَن هو مُبتَلى، إمَّا بفوات محبوب أو حصول مكروه أو زوال
مرغوب، فسرور الدنيا أحلامُ نومٍ أو كظِلٍّ زائل، إن أَضحَكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن
سَرَّت يوماً أحزَنت دهراً، وإن مَتَّعت قليلاً مَنَعت طويلاً، وما مَلأت داراً حبرة
إلاَّ مَلأتها عبرة، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لكلِّ فَرحة تَرحة، وما
مُلئَ بيتٌ فَرَحاً إلاَّ مُلئَ تَرَحاً", إلاَّ أنَّ عبدَ الله المسلم صائرٌ
إلى خير في كلِّ أحواله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "عَجَباً لأمر المؤمن إنَّ
أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحد إلاَّ للمؤمن، إن أصابَته سَرَّاءُ شَكَرَ فكان خيراً
له، وإن أصابته ضَرَّاءُ صَبَرَ فكان خيراً له" رواه مسلم. وقد أرشد
الله عبادَه إلى الحال التي ينبغي أن يكونوا عليها عند المصيبة، وإلى الذِّكر الذي
ينبغي أن يقولَه المُصابُ، يقول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ
وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، فأخبر سبحانه في هذه الآية الكريمة أنَّه يبتلي عبادَه بالمحن؛
ليَتَبَيَّنَ الصادقُ من الكاذب، والجازع من الصابر، والموقنُ من المرتاب، وذَكَرَ
أنواعاً مِمَّا يبتليهم به، فهو يبتليهم بشيء من الخوف، أي: من الأعداء، والجوع، أي:
بنقص الطعام والغذاء، ونقصٍ من الأموال، وهو يشمَلُ جميعَ أنواع النقص المعتري للأموال،
سواء بالجوائح السماوية أو الغرق أو الضَّيَاع أو السَّلب أو غير ذلك، ويبتليهم كذلك
بنقص الأنفسِ بذهاب الأحباب من الأولاد والأقارب والأصحاب، ويَدخُلُ تحت هذا ما يُصيب
البدن من أنواع الأمراض والأسقام، ويبتليهم كذلك بنقص الثَّمَرات من الحبوب وثمار النخيل
والأشجار، وهي أمورٌ لا بدَّ وأن تقع؛ لأنَّ العليمَ الخبيرَ أخبَرَ بوقوعها، وحظُّ
الإنسان من المصيبة هو ما تُحدث له من أثر، فمَن رضيَ فله الرِّضا، ومن سَخط فله السخط،
ولهذا لا بدَّ أن يعلمَ المصابُ أنَّ الذي ابتلاه بمصيبته هو أحكمُ الحاكمين وأرحمُ
الراحمين، وأنَّه سبحانه لَم يُرسل بلاءَه عليه ليهلكَه ولا ليعذِّبَه، وإنَّما ابتلاه
ليمتحنَ صبرَه ورضاه وإيمانَه، وليسمع تَضرُّعَه وابتهالَه ودعاءَه، وليَرَهُ طريحاً
ببابه، لائذاً بجَنَابه، مكسورَ القلب بين يديه، رافعاً يدي الضَّرَاعة إليه، يشكو
بَثَّه وحُزنَه إليه؛ فينالَ بذلك عظيمَ موعود الله وجزيلَ عطائه ووافرَ آلائه ونعمائه،
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، فما أوسَعَه من فضل وما أكرمَه من عطاء،
يقول عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه: "نعم العدلان ونعمت العلاوة". عباد
الله لقد جعل اللهُ هذه الكلمةَ كلمةَ الاسترجاع وهي قول المُصاب: "إنَّا لله
وإنَّا إليه راجعون" ملجأً وملاذاً لذوي المصائب، وعِصمةً للممتَحَنين، فإذا لَجأَ
المُصابُ إلى هذه الكلمة الجامعة لمعاني الخير والبركة سكن قلبُه، واطمأنت نفسُه، وهدأ
بالُه، وعوَّضَه اللهُ في مصيبته خيراً، روى مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها
أنَّها قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ
مُصِيبَةٌ فَيَقُولَ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي
فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْهَا، إِلاَّ آجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ
وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْراً مِنْهَا. قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِيَّ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ
كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْلَفَ اللهُ لِي خَيْراً مِنْهُ؛
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم". أي: أنَّ اللهَ أكرَمَها فتزوَّجت رسولَ الله
صلى الله عليه وسلم. ومَن
يتأمَّل هذه الكلمةَ العظيمةَ كلمةَ الاسترجاع، يجدُ أنَّها مشتملةٌ على علاج عظيم
لذوي المصائب، بل فيها لهم أبلغ علاج وأنفعه في الحال والمآل، وكم لهذه الكلمة من الآثارِ
الحميدة والعواقبِ الرشيدة والنتائج العظيمة في الدنيا والآخرة، ويكفي في هذا قول الله
تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُهْتَدُونَ} ، لكن مع قولها لا بدَّ من فهم مدلولها وتحقيق مقصودها؛ ليَحظَى العبدُ
بهذا الموعود الكريم والثواب العظيم. الخطبة
الثانية الحمد
لله أما بعد فقد تضمَّنت
هذه الكلمة أصلين عظيمين، إذا حقَّقَهما العبدُ علماً وعملاً تَسَلَّى عن مصيبته، ونال
عظيمَ الثواب وجميل المآب. أمَّا
الأصل الأول: فهو أن يتحقَّق العبدُ أنَّ نفسَه وأهلَه ومالَه وولَده مِلكٌ لله عز
وجل، فهو الذي أوْجَدَهم من العدَم، ويتصرَّف فيهم بما شاء، ويحكم فيهم بما يريد، لا
مُعقِّب لحُكمه، ولا رادَّ لقضائه، وهذا مستفادٌ من قوله "إنَّا لله" أي:
نحن مماليك له، وتحت تصرفه وتدبيره، هو ربُّنا ونحن عبيدُه، وكلُّ شيء واقعٌ علينا
فبقضائه وقدره، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ
فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}. والأصل
الثاني: أن يعلمَ العبدُ أنَّ مصيرَه ومرجعَه إلى الله، كما قال الله تعالى: {وَأَنَّ
إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} ، وقال تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} ، فلا
بدَّ للعبد أن يخلفَ الدنيا وراءَ ظهره، ويأتي ربَّه يوم القيامة فرداً كما خلقَه أوَّلَ
مرَّة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، وإنَّما يأتيه بالحسنات والسيِّئات، وهذا مستفادٌ
من قوله: "وإنَّا إليه راجعون"، وهو إقرارٌ من العبد بأنَّه راجعٌ إلى الله،
وأنَّه سبحانه سيُجازيه على ما قدَّم في هذه الحياة، وعندئذ يتَّجه إلى شَغْلِ نفسه
بما ينفعه عند لقاء الله، فإذا قالَها المصابُ على هذا الوصف مستحضِراً لمعناها محقِّقاً
لمدلوها ومقتضاها هُدي إلى صراط مستقيم. وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان هنا : http://islamek.net/catplay.php?catsmktba=129
|