سلسلة
آيات وعظات
موعظة
من سورة المؤمنون
الحمد
لله الذي نوّر بالقرآن القلوب ، وأنزله في أوجزِ لفظ وأعجزِ أسلوب ، فأعيت بلاغته
البلغاء، وأعجزت حكمته الحكماء.. أحمده سبحانه وهو أهل الحمد والثناء ، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله المصطفى ، ونبيه المرتضى،
صلى الله عليه وعلى آله الأبرار وصحبه الأخيار، ما تعاقب الليل والنهار ، وسلم
تسليما كثيرا. أما بعد:
فاتقوا الله عباد
الله، واعلموا أن في القرآن شفاء ورحمة وهدى للمؤمنين ومعنا في هذه الخطبة سورة
مباركة ذكر الله تعالى في أولها عدة صفات لمن يستحق الفردوس قال تعالى: {بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ
فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ *......إلى قوله:
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ}
قال الشيخ السعدي رحمه
الله تعالى: هذا تنويه من الله، بذكر عباده المؤمنين، وذكر فلاحهم وسعادتهم، وبأي:
شيء وصلوا إلى ذلك، وفي ضمن ذلك، الحث على الاتصاف بصفاتهم، والترغيب فيها. فليزن
العبد نفسه وغيره على هذه الآيات، يعرف بذلك ما معه وما مع غيره من الإيمان، زيادة
ونقصا، كثرة وقلة، فقوله {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} أي: قد فازوا وسعدوا
ونجحوا، وأدركوا كل ما يرام المؤمنون الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين الذين من
صفاتهم الكاملة أنهم {فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}
والخشوع في الصلاة: هو
حضور القلب بين يدي الله تعالى، مستحضرا لقربه، فيسكن لذلك قلبه، وتطمئن نفسه،
وتسكن حركاته، ويقل التفاته، متأدبا بين يدي ربه، مستحضرا جميع ما يقوله ويفعله في
صلاته، من أول صلاته إلى آخرها، فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الردية، وهذا روح
الصلاة، والمقصود منها، وهو الذي يكتب للعبد، فالصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور
قلب، وإن كانت مجزئة مثابا عليها، فإن الثواب على
حسب ما يعقل القلب منها. أ.هـ.
وَالْخُشُوعُ فِي
الصَّلَاةِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِمَنْ فَرَّغ قَلْبَهُ لَهَا، وَاشْتَغَلَ بِهَا
عَمَّا عَدَاهَا، وَآثَرَهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ رَاحَةً لَهُ
وقُرَّة عَيْنٍ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،:
"حُبِّبَ إليَّ الطِّيب وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي
الصَّلَاةِ" رواه الإمام أحمد والنسائي.
{وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ} وهو الكلام والفعل الذي لا خير فيه ولا فائدة، {مُعْرِضُونَ} رغبة
عنه، وتنزيها لأنفسهم، وترفعا عنه، وإذا مروا باللغو مروا كراما، وإذا كانوا
معرضين عن اللغو، فإعراضهم عن المحرم من باب أولى وأحرى، وإذا ملك العبد لسانه
وخزنه -إلا في الخير- كان مالكا لأمره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن
جبل حين وصاه بوصايا قال: " ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ " قلت: بلى يا
رسول الله، فأخذ بلسان نفسه وقال: " كف عليك هذا " فالمؤمنون من صفاتهم
الحميدة، كف ألسنتهم عن اللغو والمحرمات.
{وَالَّذِينَ هُمْ
لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} أي مؤدون لزكاة أموالهم، على اختلاف أجناس الأموال، مزكين
لأنفسهم من أدناس الأخلاق ومساوئ الأعمال التي تزكو النفس بتركها وتجنبها، فأحسنوا
في عبادة الخالق، في الخشوع في الصلاة، وأحسنوا إلى خلقه بأداء الزكاة.
{وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} عن الزنا واللواط ونحوهما، ومن تمام حفظهما تجنب ما
يدعو إلى ذلك، كالنظر واللمس ونحوهما. فحفظوا فروجهم من كل أحد {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ} من الإماء المملوكات {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} بقربهما، لأن
الله تعالى أحلهما. قال الإمام البغوي في تفسيره وفي هذه الآية دليل على تحريم
العادة السرية وهو مذهب أكثر العلماء.أ.هـ.
{فَمَنِ ابْتَغَى
وَرَاءَ ذَلِكَ} غير الزوجة والسرية {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} الذين تعدوا
ما أحل الله إلى ما حرمه، المتجرئون على محارم الله. وعموم هذه الآية، يدل على
تحريم نكاح المتعة، فإنها ليست زوجة حقيقة مقصودا بقاؤها، ولا مملوكة، وتحريم نكاح
المحلل لذلك.
{وَالَّذِينَ هُمْ
لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أي: مراعون لها، ضابطون، حافظون، حريصون
على القيام بها وتنفيذها، وهذا عام في جميع الأمانات التي هي حق لله، والتي هي حق
للعباد، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الإنْسَانُ} فجميع ما أوجبه الله على عبده أمانة، على العبد حفظها بالقيام التام
بها، وكذلك يدخل في ذلك أمانات الآدميين، كأمانات الأموال والأسرار ونحوهما، فعلى
العبد مراعاة الأمرين، وأداء الأمانتين {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}
وكذلك العهد، يشمل
العهد الذي بينهم وبين ربهم والذي بينهم وبين العباد، وهي الالتزامات والعقود، التي
يعقدها العبد، فعليه مراعاتها والوفاء بها، ويحرم عليه التفريط فيها وإهمالها.
بارك
الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم،
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية
الحمد
لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله
الأولين والآخرين، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله النبي الأمين، اللهم صل
وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياء المرسلين وآله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا
عباد الله :-
وقوله: {وَالَّذِينَ
هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي: يداومون عليها في أوقاتها وحدودها
وأشراطها وأركانها، فمدحهم بالخشوع بالصلاة، وبالمحافظة عليها، لأنه لا يتم أمرهم
إلا بالأمرين، فمن يداوم على الصلاة من غير خشوع، أو على الخشوع من دون محافظة
عليها، فإنه مذموم ناقص. وَقَدِ افْتَتَحَ اللَّهُ ذِكْرَ هَذِهِ الصِّفَاتِ
الْحَمِيدَةِ بِالصَّلَاةِ، وَاخْتَتَمَهَا بِالصَّلَاةِ، فَدَلَّ عَلَى
أَفْضَلِيَّتِهَا، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ
أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا
مُؤْمِنٌ" رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
{أُولَئِكَ} الموصوفون
بتلك الصفات {هم الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} َثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ
أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ
الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ" الذي هو أعلى الجنة ووسطها
وأفضلها لأنهم حلوا من صفات الخير أعلاها وذروتها أو المراد بذلك جميع الجنة ليدخل
بذلك عموم المؤمنين على درجاتهم ومراتبهم كل بحسب حاله {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
لا يظعنون عنها ولا يبغون عنها حولا لاشتمالها على أكمل النعيم وأفضله وأتمه من
غير مكدر ولا منغص.
فاللهم
إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم
إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة ياذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
اللهم
علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك،
نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به
نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب
عندك؛ أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا.
اللهم علمنا منه ما جهلنا وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف
النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، يا أرحم الراحمين
اللهم
إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم إنا
نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم أقل
عثرات المسلمين وردهم إليك رداً جميلاً، اللهم اجمع كلمتهم على الحق والهدى وألّف
بين قلوبهم ووحد صفوفهم وارزقهم العمل بكتابك وسنة نبيك، وانتصر لعبادك المستضعفين
في كل مكان، اللهم واحقن دمائهم وصن أعراضهم وتولّ أمرهم وسدد رميهم وعجّل بنصرهم
وفرّج كربهم وانصرهم على القوم الظالمين، اللهم عليك بأعداء الدين من الكفرة
المجرمين والطغاة الملحدين الذين قتلوا العباد وسعوا في الأرض بالتخريب والتقتيل
وأنواع الفساد اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين، اللهم شتت شملهم
وأحبط سعيهم واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم
المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم أصلح أحوالنا ونياتنا وذرياتنا واختم بالصالحات
أعمالنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم نسألك رحمة تهد بها قلوبنا، وتجمع بها
شملنا وتلُمّ بها شعثنا وترُدّ بها الفتن عنا. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي
الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|