سلسلة
آيات وعظات
موعظة
من سورة المعارج
الحمد
لله الذي نوّر بالقرآن القلوب ، وأنزله في أوجزِ لفظ وأعجزِ أسلوب ، فأعيت بلاغته
البلغاء، وأعجزت حكمته الحكماء.. أحمده سبحانه وهو أهل الحمد والثناء ، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله المصطفى ، ونبيه المرتضى،
صلى الله عليه وعلى آله الأبرار وصحبه الأخيار، ما تعاقب الليل والنهار ، وسلم
تسليما كثيرا. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
أيها الناس : آيات
بينات , وجواهر ودرر كريمات من سورة المعارج , ذكر الله فيها شيئا من أوصاف بني
البشر. فتمسكوا بالخيرات واجتنبوا القبيحات تفوزوا بجنة عرضها الأرض والسموات .
قال تعالى (إنَّ
الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا
مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى
صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ
رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28))
وهذا الوصف للإنسان
من حيث هو وصف طبيعته الأصلية، أنه هلوع.
وفسر الهلوع بأنه:
{إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} فيجزع إن أصابه فقر أو مرض، أو ذهاب محبوب له،
من مال أو أهل أو ولد، ولا يستعمل في ذلك الصبر والرضا بما قضى الله.
{وَإِذَا مَسَّهُ
الْخَيْرُ مَنُوعًا} فلا ينفق مما آتاه الله، ولا يشكر الله على نعمه وبره، فيجزع
في الضراء، ويمنع في السراء. عن أبي هُرَيرة قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شَرُّ مَا فِي رَجُلٍ شُحٌ هَالِعٌ، وَجُبْنٌ
خَالِعٌ". رواه الامام أحمد في المسند وأبو داود وهو حديث صحيح
{إِلا الْمُصَلِّينَ}
الموصوفين بتلك الأوصاف فإنهم إذا مسهم الخير شكروا الله، وأنفقوا مما خولهم الله،
وإذا مسهم الشر صبروا واحتسبوا.
وقوله في وصفهم: {الَّذِينَ
هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} أي: مداومون عليها في أوقاتها بشروطها
ومكملاتها.
وليسوا كمن لا
يفعلها، أو يفعلها وقتا دون وقت، أو يفعلها على وجه ناقص.
{وَالَّذِينَ فِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} من زكاة وصدقة
{لِلسَّائِلِ} الذي
يتعرض للسؤال {وَالْمَحْرُومِ} وهو المسكين الذي لا يسأل الناس فيعطوه، ولا يفطن
له فيتصدق عليه.
{وَالَّذِينَ
يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي: يؤمنون بما أخبر الله به، وأخبرت به رسله، من
الجزاء والبعث، ويتيقنون ذلك فيستعدون للآخرة، ويسعون لها سعيها. والتصديق بيوم
الدين يلزم منه التصديق بالرسل، وبما جاءوا به من الكتب.
{وَالَّذِينَ هُمْ
مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} أي: خائفون وجلون، فيتركون لذلك كل ما يقربهم
من عذاب الله.
{إِنَّ عَذَابَ
رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} أي: هو العذاب الذي يخشى ويحذر.
{وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} فلا يطأون بها وطأ محرما، من زنى أو لواط، أو وطء في
دبر، أو حيض، ونحو ذلك، ويحفظونها أيضا من النظر إليها ومسها، ممن لا يجوز له ذلك،
ويتركون أيضا وسائل المحرمات الداعية لفعل الفاحشة.
{إِلا عَلَى
أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي: سرياتهم {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ} في وطئهن في المحل الذي هو محل الحرث.
{فَمَنِ ابْتَغَى
وَرَاءَ ذَلِكَ} أي: غير الزوجة وملك اليمين، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} أي:
المتجاوزون ما أحل الله إلى ما حرم الله، ودلت هذه الآية على تحريم نكاح المتعة،
لكونها غير زوجة مقصودة، ولا ملك يمين.
{وَالَّذِينَ هُمْ
لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أي: مراعون لها، حافظون مجتهدون على أدائها
والوفاء بها، وَهَذِهِ صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَضِدُّهَا صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ،
كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا
حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ". وَفِي
رِوَايَةٍ: "إِذَا حَدَّث كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَر، وَإِذَا خَاصَمَ
فَجَرَ" .
أيها الناس: والأمانة
في هذه الآية شامل لجميع الأمانات التي بين العبد وبين ربه، كالتكاليف السرية،
التي لا يطلع عليها إلا الله، والأمانات التي بين العبد وبين الخلق، في الأموال
والأسرار، وكذلك العهد، شامل للعهد الذي عاهد عليه الله، والعهد الذي عاهد عليه
الخلق، فإن العهد يسأل عنه العبد، هل قام به ووفاه، أم رفضه وخانه فلم يقم به؟. فزوجتك
أمانة هل أمرتها بالمعروف ونهيتها عن المنكر؟!!! أولادك من بنين وبنات أمانة : هل
صنتهم عن الحرام ؟!! هل حفظتهم من أصدقاء السوء ؟!! هل نهيتهم عن المنكر؟!!.
بارك
الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم،
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية
الحمد
لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله
الأولين والآخرين، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله النبي الأمين، اللهم صل
وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياء المرسلين وآله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا
عباد الله :-
{وَالَّذِينَ هُمْ
بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} أي: لا يشهدون إلا بما يعلمونه، من غير زيادة ولا
نقص ولا كتمان، ولا يحابي فيها قريبا ولا صديقا ونحوه، ويكون القصد بها وجه الله. قال
تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ
أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} .
وقوله {وَالَّذِينَ
هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} بمداومتها على أكمل وجوهها: عَلَى
مَوَاقِيتِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَمُسْتَحِبَّاتِهَا، فَافْتَتَحَ
الْكَلَامَ بِذِكْرِ الصَّلَاةِ وَاخْتَتَمَهُ بِذِكْرِهَا، فَدَلَّ عَلَى
الِاعْتِنَاءِ بِهَا وَالتَّنْوِيهِ بِشَرَفِهَا،
{أُولَئِكَ} أي:
الموصوفون بتلك الصفات {فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} أي: قد أوصل الله لهم من
الكرامة والنعيم المقيم ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون.
وحاصل هذا – عباد
الله - أن الله وصف أهل السعادة والخير بهذه الأوصاف الكاملة، والأخلاق الفاضلة،
من العبادات البدنية، كالصلاة، والمداومة عليها، والأعمال القلبية، كخشية الله
الداعية لكل خير، والعبادات المالية، والعقائد النافعة، والأخلاق الفاضلة، ومعاملة
الله، ومعاملة خلقه، أحسن معاملة من إنصافهم، وحفظ عهودهم وأسرارهم ، والعفة
التامة بحفظ الفروج عما يكره الله تعالى..
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، اللهم إنا عبيدك، بنو
عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل
اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت
به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب
همومنا وغمومنا. اللهم علمنا منه ما جهلنا وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا تلاوته
آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، يا أرحم الراحمين
اللهم
إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم إنا
نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم أقل
عثرات المسلمين وردهم إليك رداً جميلاً، اللهم اجمع كلمتهم على الحق والهدى وألّف
بين قلوبهم ووحد صفوفهم وارزقهم العمل بكتابك وسنة نبيك، وانتصر لعبادك المستضعفين
في كل مكان، اللهم واحقن دمائهم وصن أعراضهم وتولّ أمرهم وسدد رميهم وعجّل بنصرهم
وفرّج كربهم وانصرهم على القوم الظالمين، اللهم عليك بأعداء الدين من الكفرة
المجرمين والطغاة الملحدين الذين قتلوا العباد وسعوا في الأرض بالتخريب والتقتيل
وأنواع الفساد اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين، اللهم شتت شملهم
وأحبط سعيهم واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم
المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم أصلح أحوالنا ونياتنا وذرياتنا واختم بالصالحات
أعمالنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم نسألك رحمة تهد بها قلوبنا، وتجمع بها
شملنا وتلُمّ بها شعثنا وترُدّ بها الفتن عنا. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي
الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |