احرص على ما ينفعك
الحمدُ لله جَزيلِ
العطايَا، واسِعِ الجُود، أحمدُه – سبحانه – وهو بكلِّ لِسانٍ محمُود، وأشهدُ أن
لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له شهادةً خالِصةً مُبرَّأةً مِن الشكِّ والجُحُود،
وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه صاحِبُ المقامِ المحمُود، والحَوضِ
المورُود، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه أشِدَّاءُ على
الكفَّار رُحماءُ بينهم، هم الرُّكَّعُ السُّجُود، والتابِعين ومَن تبِعَهم
بإحسانٍ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى اليوم المشهُود.
أما
بعد فاتقوا الله تعالى، روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " احْرِصْ عَلَى مَا
يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَز.. وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا
تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فعلت كذا، كان كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قدَّر اللَّهُ،
وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" .
هذا
الحديث عظيم ينبغي للإنسان أن يجعله نبراساً له في عمله الديني والدنيوي، لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك " وهذه الكلمة جامعة عامة على ما ينفعك أي على كل
شيء ينفعك سواء في الدين أو في الدنيا، فإذا تعارضت منفعة الدين ومنفعة الدنيا،
فإنها تقدم منفعة الدين لأن الدين إذا صلح صلحت الدنيا، أما الدنيا إذا صلحت مع
فساد الدين فإنها تفسد .
وقوله
عليه الصلاة والسلام " واستعن بالله " ما أروع هذه الكلمة بعد قوله
"احرص على ما ينفعك" لأن الإنسان إذا كان عاقلاً ذكياً فإنه يتتبع
المنافع ويأخذ بالأنفع، وربما تغره نفسه حتى يعتمد على نفسه وينسى الاستعانة
بالله، وهذا يقع لكثير من الناس، حيث يعجب بنفسه ولا يذكر الله عز وجل ويستعين به
فإذا رأى من نفسه قوة على الأعمال وحرصاً على النافع وفعلاً له، أُعجب بنفسه ونسى
الاستعانة بالله، ولهذا قال: احرص على ما ينفعك واستعن بالله أي لا تنس الاستعانة
بالله ولو على الشيء اليسير .
وفي
الحديث:" ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع" يعني حتى الشيء اليسير لا تنس الله، حتى ولو
أردت أن تتوضأ أو تصلي أو تذهب يميناً أو شمالاً أو تضع شيئاً فاستحضر أنك مستعين
بالله عز وجل، وأنه لولا عون الله ما حصل لك هذا الشيء .
ثم
قال ولا تعجز يعني استمر في العمل ولا تعجز وتتأخر، وتقول إن المدى طويل والشغل
كثير، فما دمت قد صممت في أول الأمر أن هذا هو الأنفع لك واستعنت بالله وشرعت فيه
فلا تعجز .
وهذا
الحديث الكلام عنه مهم جداً لأن له من الصور والمسائل ما لا يحصى .
منها
مثلاً: طالب العلم الذي يشرع في كتاب يرى أنه منفعة وفيه مصلحة له، ثم بعد أسبوع
أو شهر يمل، وينتقل إلى كتاب آخر، هذا نقول استعان بالله وحرص على ما نفعه ولكنه
عجز، كيف عجز ؟ بكونه لم يستمر، لأن معنى قوله لا تعجز أي لا تترك العمل، بل مادمت
دخلت فيه على أنه نافع فاستمر فيه .
ولذا
تجد هذا الرجل مضى عليه الوقت ولم يحصل شيئاً، لأنه أحياناً يقرأ في هذا وأحياناً
في هذا .
ولهذا
كان من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبدأ بالأهم الذي تحرك من أجله، وذلك
لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم بيت عتبان بن مالك رضي الله عنه وقد دعاه لأن
يصلي في بيته , فلما دخل – بدأ بالأهم – فقال له : أين تحب أن أصلي ؟ فهذا دليل
على أن الإنسان يبدأ بالأهم، وبالذي تحرك من أجله من أجل ألا يضيع عمله سدى .
فقول
الرسول صلى الله عليه وسلم "لا تعجز"
أي لا تكسل وتتأخر في العمل إذا شرعت فيه، بل استمر لأنك إذا تركت ثم شرعت
في عمل آخر، ثم تركت ثم شرعت ثم تركت، ما تم لك عمل .
ثم
قال عليه الصلاة والسلام: فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا يعني
بعد أن تحرص وتبذل الجهد وتستعين بالله وتستمر، ثم يخرج الأمر على خلاف ما تريد
فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا، لأن هذا أمر فوق إرادتك، أنت فعلت الذي تؤمر به
ولكن الله عز وجل غالب على أمره { والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
}
ولهذا
قال ولكن قل: قدر الله أي هذا قدر الله أي تقدير الله وقضاؤه، وما شاء الله عز وجل
فعله { إن ربك فعال لما يريد} .
بارك الله لي ولكم في
القرآن العظيم ؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ؛ أقول هذا القول
واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية
الحمد لله على آلائِه، والشكرُ له على نعمائِه، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له جلَّ في عليائِه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله
ورسولُه خيرتُه من خلقِه وصفيُّه من أوليائِه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى
آله وأصحابه وأصفِيائِه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تنزَّلَ أمرُه بين
أرضِه وسمائِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم لقائِه. أما بعد:
أيها الإخوة: والله لو
أننا سرنا على هدي هذا الحديث لاسترحنا كثيراً، لكن تجد الإنسان أولاً: لا يحرص
على ما ينفعه بل تمضي أوقاته ليلاً ونهاراً بدون فائدة، تضيع عليه سدى .
ثانياً: إذا قدر أنه اجتهد
في أمر ينفعه ثم فات الأمر ولم يكن على ما توقع تجده يندم، ويقول ليتني ما فعلت
كذا، ولو أني فعلت كذا لكان كذا، وهذا ليس بصحيح فأنت أد ما عليك ثم بعد هذا فوض
الأمر لله عز وجل .
فإذا قال قائل كيف احتج
بالقدر ؟ كيف أقول قدر الله وما شاء فعل ؟ والجواب نقول: نعم هذا احتجاج بالقدر
ولكن الاحتجاج بالقدر في موضعه لا بأس به, مثل ما فعل النبي عليه الصلاة والسلام
حيث دخل ذات ليلة على علي بن أبي طالب وفاطمة بنت محمد عليه الصلاة والسلام
فوجدهما نائمين، فقال لهما: ما منعكما أن تقوما ؟ يعني: تقومان تتهجدان، فقال علي:
يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله لو شاء أن نقوم لقمنا، فخرج النبي عليه الصلاة
والسلام وهو يضرب على فخذيه ويقول: { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } هذا جدال ,
لكن احتجاج علي بن أبي طالب في محله، لأن النائم ليس عليه حرج فهو ما ترك وهو
مستيقظ. فاحتجاج علي بالقدر هنا حجة، وذلك
لأنه أمر ليس باختياره: هل النائم يستطيع أن يستيقظ إذا لم يوقظه الله ؟ .. لا، إذن هو حجة .
هناك حالة أخرى تمنع من
الاحتجاج بالقدر : إذا أراد الإنسان أن يستمر على المعصية ليدفع اللوم عن نفسه،
نقول مثلاً: يا فلان صل مع الجماعة، تقول والله لو هداني الله لصليت، فهذا ليس
بصحيح، يقال لآخر أقلع عن حلق اللحية، يقول: لو هداني الله أقلعت، وأقلع عن الدخان
يقول: لو هداني الله لأقلعت، فهذا ليس بصحيح، لأن هذا يحتج بالقدر ليستمر في
المعصية والمخالفة لكن إن وقع الإنسان في خطأ وتاب إلى الله، وأناب إلى الله،
وندم، وقال: إن هذا الشيء مقدر علي، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه، نقول: هذا صحيح،
إن تاب واحتج بالقدر فليس هناك مانع .
اللهم
علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما يا عليم ، اللهم فقهنا في دينك يا
ذا الجلال والإكرام.
اللهم
إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا وتتوب
علينا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم احفظنا بالإسلام
قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تشمت بنا أعداء و لا
حاسدين ، اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه بيدك ، ونعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك
.
اللهم
إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك
القصد في الفقر والغـنى، ونسألك نعيمًا لا ينفد ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا
بعد القضاء ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق
إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فـتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعـلنا
هداة مهتدين يا أرحم الراحمين .
اللهم
واغفر لنا ذنبنا كله؛ دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا
وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات .
اللهم
إنا نستغفرك إنك كنت غفارا ؛ فأرسل السماء علينا مدرارا. اللهم أغثنا ، اللهم
أغثنا، اللهم أغثنا, اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وبأنك أنت الله
لا إله إلا أنت أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم إنا نسألك غيثاً
مغيثا ، هنيئاً مريئا ، سحًّا طبقا ، نافعاً غير ضار ، عاجلاً غير آجل . اللهم أغث
قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدمٍ ولا عذابٍ ولا غرق
، اللهم أعطنا ولا تحرمنا وزدنا ولا تنقصنا وآثرنا ولا تؤثر علينا، ربنا تقبل منا
إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم صلّ وسلم على
نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|