الْمَشْروعُ في زيارةِ القُبُورِ والتحذيرُ مِن
بَعْضِ الأعمالِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها الناس: اتقُوا اللهَ تعالى،
واعْلَمُوا أَنَّ دينَ اللهِ وَسَطٌ بَيْنَ الغالِي فِيهِ والجافِي عَنْه.
واعْلَمُوا أَنَّ الشِّرْكَ أعْظَمُ الذُّنُوبِ، مِنْ أَجْلِ ذلكَ حَرَّمَ اللهُ
تعالَى كُلَّ وَسِيلَةٍ تُفْضِي إِلَيْهِ، سَوَاءً كانت قَوْلِيَّةً أَوْ
فِعْلِيَّةً. وَإِنَّ مِن الأعمالِ التي نَهَى عَنْها الشارِعُ الحَكِيمُ فِي
أَوَّلِ الأَمْرِ: زِيارةَ القُبُورِ، خَوْفًا مِنْ أَنْ تَكُونَ زِيارَتُها
ذَرِيعَةً إلى الكُفْرِ والشِّرْكِ، وما ذاكَ إلَّا لِأَنَّ مِن الناسِ مَنْ
يَعْتَقِدُونَ فِي الأَمْواتِ، وَقَدْ يُعْطُونَهُمْ مِن الخَصائِصِ مالا يَجُوزُ
إلا للهِ، وَيَعْتَقِدُونَ نَفْعَهُمْ لِلأَحياءِ، فَيَدْعُونَهُم مِنْ دُونِ
اللهِ ويَسْأَلُونَهم الغَوْثَ والمَدَدِ. وهذا شِرْكٌ أَكْبَرُ، وذَنْبٌ لا
يُغْفَرُ. فَحَرَّمَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ زِيارتَها فِي أَوَّلِ الأَمْرِ
خَوْفًا مِنْ ذلك. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ التوحِيدِ في قُلُوبِ الناسِ وَعَرَفُوا
حَقِيقةَ الشِّرْكِ، أَذِنَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم بِزِيارَتِها، فقال: ( كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عن زِيارةِ القُبُورِ، فَزُورُوها،
فَإِنَّها تُذَكِّرُ المَوْتَ ). وفي رواية: ( تُذَكِّرُ
الآخِرَةِ ). فَزِيارةِ القُبُورِ مَشْرُوعَةٌ
لِسَبَبَيْنِ:
الأول:
أنَّها تُذَكِّرُ المَوْتَ وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ، وتَزِيدُ القَلْبَ خُشُوعًا
وَرِقَّةً. لِأَنَّها تُذَكِّرُ العَبْدَ بِأَنَّ مَرَدَه إلى اللهِ،
وَتُذَكِّرُهُ بِإِخْوَانٍ لَهْ، كانُوا يَمْشُونَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ،
وَيَتَمَتَّعُونَ مِثْلَهُ بِما أَباحَ اللهُ. ثُمَّ صارُوا مُرْتَهَنِينَ في
قُبُورِهِم، يَتَمَنَّوْنَ لَحْظَةً يَذْكُرُونَ اللهَ فِيها وَيُصَلُّونَ
وَيَتَصَدَّقُونَ ويَسْتَغْفِرُون مِن ذُنُوبِهِم. وَلِذلكِ كانَ السَّلَفُ إذا
تَبِعُوا الجَنَازَةَ وكانُوا مَعَها، أَطْرَقُوا كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِهِم
الطَّيْرَ، ما بَيْنَ باكٍ وخاشِعٍ، بِخِلافِ ما عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِن الناسِ
اليَّوْمَ.
السببُ الثاني في
مَشْرُوعِيَّةِ زِيارةِ القُبُورِ: السلامُ عَلَى الأَمْواتِ والدُّعاءُ
لَهُمْ، لِأَنَّ الأَمْواتَ بِحاجَةٍ إلى دُعاءِ الحَيِّ وَطَلَبِ المَغْفِرَةِ،
قال ابنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عَنْهُما: ( مَرَّ رسولُ
اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِقُبُورِ المَدينةِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ
بِوَجْهِهِ فقال: السلامُ عَلَيْكُم يا أَهْلَ القُبُورِ، يَغْفِرُ اللهُ لَنَا
وَلَكُمْ، أَنْتُمْ سَلَفُنا وَنَحْنُ بِالأثَرِ ). هذا هُوَ المَشْرُوعُ
عِنْدَ الزِّيارةِ، بِخِلافِ ما عَلَيْهِ أَهلُ الشِّرْكِ الذينَ يَعْتَقِدُونَ
بِأَنَّ الحَيَّ هُوَ الذي بِحاجَةٍ إلى المَيِّتِ، فَتَجِدُهُ يَدْعُوهُ مِنْ
دُونِ اللهِ، أَوْ يَذْبَحُ لَه أَوْ يَنْذُرُ لَه، أَوْ يَطُوفُ عَلَى قَبْرِهِ
وَيَتَبَرَّكُ بِتُرْبَتِه.
ثُم
اعْلَمُوا يا عِبادَ اللهِ أَنَّ دِينَ اللهِ تَعالَى
وَسَطٌ فِي التَّعامُلِ مَعَ الأَمْواتِ والقُبُورِ. وَسَطٌ بَيْنَ الغالِي
والجافِي. فَكَمَا أَنَّ الشارِعَ الحَكِيمَ نَهَى عَنْ الغُلُوِّ فِي الأَمْواتِ
والقُبُورِ، وَلَعَنَ الذين اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيائِهِم مَساجِد. وَنَهَى
النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عَن الصلاةِ إلى القُبُورِ أَوْ عِنْدَها أَوْ
تَجْصِيصِها أَوْ رَفْعِها أو الكِتابةِ عَلَيْها. كذلك أَمَرَ بِإكْرامِ
المَيِّتِ وَتَغْسِيلِهِ وتَطْيِيبِهِ والصلاةِ عَلَيْه والإسْراعِ فِي دَفْنِه.
وَنَهَى عَنْ كُلِّ عَمَلٍ فِيه إهانَةٌ لِلْمَيِّتِ والمَقْبُورِ. قال رسولُ
اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( كَسْرُ عَظْمِ
المَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا ). وقال أيْضًا: ( لَأَنْ
يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيابَهُ، فَتَخْلُصَ إلى جِلْدِهِ،
خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ ). وقال بَشِيرُ بنُ
الخَصاصِيَةِ رضيَ اللهُ عنه: ( بَيْنَمَا أَنَا
أَمْشِي مَعَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، إذا رَجُلٌ يَمْشِي في القُبُورِ
عَلَيْهِ نَعْلانٍ فَقال: يا صاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ،
فَنَظَرَ الرَّجُلُ فَلَمَّا عَرَفَ رسولَ اللهِ، خَلَعَهُمَا فَرَمَى بِهِمَا
). وَعَلَى هذا فَمَنْ مَشَى بَيْنَ القُبُورُ وَفِي وَسْطِها فَلْيَخْلَعْ
نَعْلَيْهِ، ما لَمْ يَتَضَرَّرْ بِخَلْعِهِما، وَيَجُوزُ لُبْسُهُما لِمَنْ كانَ
مُتَنَحِّيًا عَنْها وإنْ كان داخِلَ المَقْبَرَةِ. لِأَنَّ المَمْنُوعَ هُوَ
المَشْيُ فِيهِما بِيْنَ القُبُورِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمدُ للهِ الْواحدِ الأحدِ الصمدِ الذّي لَمْ يَلدْ وَلَمْ يُولدْ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحد، فَاطرِ السِّمَاواتِ وَالأَرْضِ، جَاعَلِ الْمَلائكَةِ
رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحةً مَثْنَى وَثلاثَ وَرباعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلِقِ مَا يَشاءُ،
إنّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِير، مَا يَفْتَحِ اللهُ للنِّاسِ مِنْ رَحمةٍ فَلا
مُمسكَ لها، وَمَا يُمسكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم،
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ
وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد:
أيُّها المسلمون:
اعْلَمُوا أنَّه لَمْ يُشْرَعْ مِن العِباداتِ في المَقْبَرَةِ إلا ما نَصَّ
عَلَيْه الشارعُ الحَكِيمُ، مِن السلامِ عَلَى الأَمْواتِ والدُّعاءِ لَهُمْ،
والصلاةِ عَلَى المَيِّتِ، لِأَنَّ صلاةَ الجَنازَةِ لا رُكُوعَ فِيها ولا
سُجُودَ.
أمَّا
الصلاةُ المَفْرُوضَةُ والنَّوافِلُ فَإِنَّها
مُحَرَّمَةٌ في المَقْبَرَةِ وباطِلَة، وكذلك تِلاوَةُ القُرْآنُ، وبَذْلُ
الصَّدَقاتِ مِن ماءٍ وَغَيْرِه، سَوَاءً جَعَلَ المُتَصَدِّقُ ثَوابَ ذلكَ عَن
نَفْسِهِ أو عَن المَيِّتِ، فَإِنَّ ذلك مِن البِدَعِ التي أَنْكَرَها السَّلَفُ.
وبَعْضُ الجُهَّالِ يَضَعُ سُقْيا لِلطُيُورِ وَغَيْرِها بِيْنَ القُبُورِ، أَوْ
عِنْدَ قُبُورِ أَمْواتِهِمْ، وهذا مُنْكَرٌ يَأْثَمُ فاعِلُه، ويَجِبُ إزالَتُه.
ويَنبغي لِمَنْ ذَهَبَ إلى المَقْبَرَةِ في تَشْيِيعِ جَنازَةٍ، أنْ يَبْتَعِدَ
عَنْ مُضايَقَةِ المُشَيِّعِينَ والمُشْتَغِلِينَ بالدَّفْنِ.
ثُمَّ
اعْلَمُوا يا عِبادَ اللهِ أَنَّ أجْرَ القِيراطَيْنِ
لِلْمُشَيِّعِ يَكْتَمِلُ بَعْدَ الفَرَاغِ مِن الدَّفْنِ. فَيُسْتَحَبُّ البَقاءُ
وَعَدَمُ الانْصِرافِ مِن المَقْبَرَةِ قَبْلَ الفَراغِ مِن الدَّفْنِ.
وأمَّا
العَزاءُ في المَقْبَرَةِ فَإِنَّه جائِزٌ، وَلَوْ جَعَلَه فِي
غَيْرِ المَقْبَرَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ. لِمَا يُسَبِّبُهُ العَزاءُ فِي المَقْبَرَةِ
مِن زِحامٍ وَرَفْعٍ لِلصَّوْتِ، وَيَزِيدُ الطِّينَ بِلَّةً: المُعانَقَةُ
والتَّقْبِيلُ مِن المُعزِّي والتي لا مُبَرِّرَ لَها ولا يَحْصُلُ مِنْها إلا
زيادةُ الزِّحامِ وإهدارُ الوَقْتِ وإرهاقُ الشَّخْصِ المُعَزَّى. فَيَنْبَغِي
الاقتِصارُ عَلَى المُصافَحَةِ، أو التَّعْزِيَةُ بالكلامِ فَقَط فَإِنَّها تَكفِي
وَيَحْصُلُ بِها المَقْصُودُ.
اللهم علمنا ما ينفعنا
وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام. اللهم إنا نسألك الجنة
وما قرب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم
أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا
آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل
شر، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على
كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا
تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم ألّف بينَ قلوبِ المؤمنين، وأصلحِ
ذاتَ بينِهم، واهدِهِم سُبَلَ السلام ونجِّهم من الظلمات إلى النور وانصرهم على
عدوّك وعدوِّهم يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك
بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف
عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقّهم من الذنوب
والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه
برحمتك يا أرحم الراحمين، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|