الْفِتنةُ أكبرُ من القتل
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ؛ ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له؛ ومنْ يضللْ فلا هاديَ له؛ وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ؛ وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ؛ صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد:- أيها الناس:
اتقوا الله تعالى, وتَعَوَّذوا بالله من الفتن ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَن, واعلموا أن الفتنة في القرآن إذا أُطْلِقَت, فإن المرادَ بها الشرك بالله, وهذا هو المقصودُ في قوله تعالى: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾, وفي قوله: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾. فإن المرادَ بالفتنة هنا: هو الكفر بالله تعالى. أي: أَنَّ ذَنْبَ الشِّركِ والكُفرِ بالله أكبرُ من ذنبِ القتل.
وَكثيرٌ من الناس لا يُدْرِكون ذلك, فَيَظُنون أن أَيَّ فِتنةٍ هي أشدُّ من القتل,
وهذا خطأٌ كبير, ولا يُقِرُّهُ عَقْلٌ ولا دِين. فإن المرادَ بِالآيةِ غيرُ ما يَفْهَمُهُ كثيرٌ مِن الناسِ اليوم, وخِلافُ ما يَذْكُرُه أهلُ العِلم: مِن أََنَّ المُراد بِالفتنةِ في الآيةِ هو: ( الشرك ) كما هو مُتَقرِّرٌ عند علماءِ التفسير.
وذلك أن نَفَراً من الصحابةِ قَتَلُوا بعضَ المشركين في شهر رجب, وهو من الأَشْهُرِ الحُرُم, وكان هؤلاء النفر من الصحابةِ يَظُنُّون أنهم في جمادى, فاتخذ المشركون ذلك حُجَةً لِلنَّيل من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابِه فقالوا: إن محمدًا يَزعُمُ أنه يَتَّبِع طاعةَ الله، وهو أول من استحلّ الشهر الحرام، فأنزل الله الآية: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾. أي أَنَّ القتلَ في الشهرِ الحرامِ كبيرٌ عند الله وَمُحَرَّم. ولكن هناك ذَنْبٌ وقعتم فيه أكبرُ من الذنبِ الذي وقع فيه هؤلاءِ النفرُ من الصحابة, أَلا وَهو الشرك, فإن الشركَ أكبرُ من القتل. ولذلك قال الإمام أحمد: " الفتنة: الشرك "
وهذا المعنى يَنبغي لِلْمسلِم أن يَعْلَمَهُ, وأن يَعْلَم أن الفتنة في الآية هي: الشرك والكفر. وأنه ليس بعد الكفر ذنب.
وهذه الآيةُ الكريمةُ تَضَمَّنَت أموراً:
أولها: تحريم القتال في الأشهر الحُرُم إلا عند الإضطرار.
الثاني: أن السَّعْيَ في إِفساد عقائدِ المسلمين, أشدُّ مِن القتل.
الثالث: أنه ليس هناك ذنبٌ أعظمُ من ذنب الكفر بالله, فلا يجوز تَعْيِيرُ المسلمين بذكر مخالفاتهم في معرض الثناء على الكفار, لأن جَمِيعَ الذنوبِ مهما عَظُمَت فإنها أقلُّ جُرْماً من ذنْبِ الكُفر.
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن المسلمَ الفاجرَ خيرٌ عند اللهِ من الكافرِ الأمينِ العفيف.
نَعَمْ: يَجِب بَذْلُ النُّصْحِ للمسلمين, وتَحْذيرُهم من عواقبِ الذنوبِ والمعاصي, وَأَمْرُهُم بالمعروف ونهيُهُم عن المنكر, ويجب على وَلِيِّ الأمرِ تطبيقُ الحدود وعدمُ التهاون في ذلك. ولكن لا يجوز أن يكون في ذلك مندوحةً لِلنَّيْلِ مِنَ المسلمين وتَفضِيل الكفار عليهم, كما يفعلُه كثيرٌ مِمَّن لم يَعْرِفوا قَدْرَ التوحيد, وَقُبْحَ الشرك.
الرابع: وُجوبُ الخوفِ من الشِّرك, وَبَذْلِ أسبابِ السلامةِ منه, فإن الله لا يغفر لصاحبه, مع العلم أن الله كتب على نفسِه الرحمة, لكنه لم يجعل للمشرك منها نصيبا, كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾. وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
ولذلك خاف إمامُ الحنفاء إبراهيمُ عليه السلام من الشرك, كما أخبر الله عنه بقوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ﴾. فإذا كان إبراهيم عليه السلام يخاف من الشرك ويدعو بهذا الدعاء لِنَفسِهِ وبَنِيه, فنحن من باب أولى.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم ؛ وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم؛ أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين, وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عباد الله: إن للإيمان حلاوةً يشعر بها المؤمن الصادق في قلبه, ولذةً لا تعدلها لذة, تفوق كُلَّ لَذَّة. هي سببُ سعادتِه, وانشراحِ صدرِه, واستنارة قلبِه, ورضاه, وذهابِ همومِه وغُمومِه, وفلاحِه, ونجاتِه في الدنيا والآخرة. وهذه الحلاوةُ لا تحصل لكل أحد, وإنَّما تحصل لمن بذل أسبابها. ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإيمان: أن يكونَ اللهُ ورسولُه أَحبَّ إليهِ مِمَّا سِوَاهُما, وأن يُحِب المرءَ لا يُحِبُّه إلا لله, وأن يَكرَهَ أن يعودَ في الكُفْرِ كَما يَكرَهُ أن يُقْذَفَ في النار ).
اللهم حببّ إلينا الإيمان, وزيّنه في قلوبنا, وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان, واجعلنا من الراشدين اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين يا رب العالمين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمةً عامة وهداية عامةً يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم عليك بالكفرة والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط عليهم مَنْ يسومهم سُوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم وفقّ ولاة أمرنا لما يرضيك اللهم وفقهم بتوفيقك وأيّدهم بتأييّدك واجعلهم من أنصار دينك, وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم حببّ إليهم الخير وأهله وبغضّ إليهم الشر وأهله يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
|