مُفْسِداتُ
القَلْبِ وَمُنَغِّصاتُ الحَياةِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد، أيُّها
الناسُ: اتَّقُوا اللهَ تَعالَى، واعْلَمُوا أَنَّ
لِحَياةِ القَلْبِ وَطُمَأنِينتِهِ أَسْبابًا، أَعْظَمُها: الإيمانُ
بِاللهِ ورسُولِه، والانقِيادُ لِأَحْكامِ الشَّرِيعَةِ، والبُعْدُ عَن الشِّرْكِ
وَوَسائِلِهِ، والبِدَعِ وَسائِرِ الْمعاصِي. قال تعالى: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم
بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ). واعْلَمُوا أَيْضًا أَنَّ لِهذِهِ الحَيَاةِ
مُنَغِّصاتٍ، وَلِلْقَلْبِ مُفْسِداتٍ، تُؤَثِّرُ فِي راحَتِهِ وَطُمَأْنِينَتِه،
وَهِي كَثِيرَةٌ، مِنْها: الانْشِغالُ بِالفُضُولِ:
" فُضُولِ الكَلَامِ، وَفُضُولِ الطعامِ،
وَفُضُولِ النَّظَرِ، وَفُضُولِ الْمُخالَطَةِ، وَفُضُولِ الإنْفاقِ
". فَفُضُولُ
الكَلَامِ: هُوَ كَثْرَتُهُ، وَعَدَمُ مُراقَبَةِ النَّفْسِ أَثْناءَ
الكَلَامِ، مِمَّا يُوقِعُ صاحِبَهُ في الإثْمِ، شَعَرَ أَوْ لَمْ يَشْعُر. قالَ
بَعْضُ السَّلَفِ: " مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ
كَثُرَ سَقَطُه، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ كَثُرَتْ ذُنُوبُه ".
وَلِذَلكَ قال عَلَيْه الصلاةُ والسلامُ: ( مَنْ كانَ
يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُت ).
وَقَال مُعاذٌ رضي اللهُ عنه لِلنبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: وَإِنَّا
لَمُؤَاخَذُونَ بِما نَقُولُ يا رسولَ اللهِ؟ فقال عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ: ( وَهَلْ يَكُبُّ الناسَ في النارِ عَلَى وُجُوهِهِم ـ أَوْ
قال: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصائِدُ أَلْسِنَتِهِم ). والْمُرادُ
بِالحَصائِدِ: جَزَاءُ الكَلَامِ الْمُحُرَّمِ، وَعُقُوباتُه، وَقالَ رسولُ اللهِ
صلى اللهُ عَلَيْه وسلم: ( أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ
الناسَ النارَ، الأَجْوَفَانِ: الفَمُ والفَرْجُ ). وأمَّا
فُضُولُ النَّظَرِ: فَالْمُرادُ بِها: إطْلاقُ البَصَرِ فِيمَا حَرَّمَ
اللهُ، وَفِيمَا يُوقِدُ نارَ الشهوةِ، أَوْ فِي تَتَبُّعِ العَوْراتِ،
وَمُتَابعَةِ أسْرارِ الناسِ. وهذا مِن أشَدِّ مَا يَمْلَأُ القَلْبَ ظُلْمَةً
وَهَمًّا، وَمِنْ أَعْظَمِ أسبابِ ضِيقِ الصَّدْرِ وَتَرَاكُمِ الحَسَراتِ. فَالنَّظَرُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهامِ إِبْلِيسَ،
وَأَحَدُ أَسْلِحَتِه التي يُفسِدُ بِها قُلُوبَ الناسِ. وَهُوَ البابُ الأولُ
لِلْوُقُوعِ في الفَوَاحِش، وَلِذلكَ قال تَعالَى: ( قُل
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ
أَزْكَى لَهُمْ ). وإطلاقُ البَصَرِ يُلْبِسُ
القَلْبَ ظُلْمَةً، كَمَا أَنَّ غَضَّ البَصَرِ لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ يُلْبِسُه
نُــورًا، وإذا اسْتَنَارَ القَلْبُ أَقبَلَتْ وُفُودُ الخَيْراتِ إلَيْهِ مِنْ
كُلِّ ناحِيَةٍ، كَمَا أَنَّه إذا أَظْلَمَ أَقْبَلَتْ إِلَيْه سَحَائِبُ
البَلَاءِ والشَّرِّ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكانٍ. وأَمَّا
فُضُولُ الطعامِ: فَقَدْ رُوِيَ عَن النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم أنَّه
قال: ( مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعاءً شرَّا مِنْ
بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَه، فَإِنْ كانَ لَا
مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِه، وثُلُثٌ لِنَفَسِه ). وَفضُولُ الطعامِ داعٍ إلى أنواعٍ كثيرةٍ مِن
الشَّرِّ، فَإِنَّه يُحَرِّك الجَوَارحَ إلى الْمَعاصِي، وَيُثقِّلُها عَن
الطاعاتِ والعِبادَاتِ، وَحَسْبُك بِهذَيْنِ شَرًّا، فَكَمْ مِن مَعْصِيَةٍ
جَلَبَها الشِّبَعُ وَفُضُولُ الطعامِ؟ وَكَمْ مِنْ طاعةٍ حالَ دُونَها؟ فَمَنْ
وُقِى شَرَّ بَطْنِهِ فَقَدْ وُقِيَ شَرًّا عَظِيمًا، والشيْطانُ أَعْظَمُ مَا
يَتَحكَّم فِي الإنسانِ إذا مَلَأَ بَطْنَه مِن الطعامِ، وَلِهذا جاءَ فِي بَعْضِ
الآثارِ: " إذا امْتَلَأَتِ الْمَعِدَةُ نَامَت
الفِكْرَةُ وَخَرِسَتْ الحِكْمَةُ وَقَعَدَتْ الأعْضاءُ عَنْ العِبادَةِ
". وقال بَعْضُ السَّلَفِ: " لَا
تَأْكُلُوا كَثِيرًا، فَتَشْرَبُوا كَثِيرًا، فَتَنامُوا كَثِيرًا فَتَخْسَرُوا
كَثِيرًا ". أَضِفْ إلى ذلك مَا يُصِيبُ الإنسانَ مِن
أمْراضٍ مُسْتَعْصِيَةٍ يَصْعُبُ عِلَاجُها وَقَدْ تَفْتِكُ بِحَياتِه، كَمَا هُوَ
الحاصِلُ اليَوْمَ مِمَّا هُوَ غَيْرُ خافٍ عَلَى كِثِيرٍ مِنْ الناسِ بِسَبَبِ
التَّرَفِ وَكَثْرَةِ الأَكْلِ. وَأَمَّا
فُضُولُ الْمُخالَطَةِ: فَالمُرادُ بِها مُخالَطَةُ مَنْ لَا يُعِينُ
عَلَى الطاعَةِ، وَلَا يَجْنِي الْمَرْءُ مِنْها إلَّا القَسْوَةَ وَالغَفْلَةَ
والبُعْدَ عَنْ اللهِ، وَهَذا بابٌ خَطِيرٌ مِنْ أبوابِ الفَسادِ والانْحِرافِ،
قَال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( الرَّجُلُ
عَلَى دِينِ خَلِيلِه, فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخالِلْ ). باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم. الخطبة الثانية الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ
أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ
وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ عبادَ اللهِ: وَأَمَّا فُضُولُ الإنفاقِ: فَالْمُرادُ بِها
الإنفاقُ فِي غَيْرِ فائِدَةٍ تَعُودُ عَلَى الْمَرْءِ فِي دِينِهِ وَدُنْياه.
فَإِنَّه بِسَبَبِها يَخْسَرُ كَثِيرًا مِنْ الخَيْرِ. وَتُعَوِّدُهُ عَلَى
البَذَخِ وَالنَّفَقَةِ فِيما يُسْخِطُ اللهَ حَتَّى لَوْ كانَ قَلِيلَ الْمالِ،
وَتُثَقِّلُ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ فِي وُجُوهِ الخَيْرِ، وَتُعِيقُهُ عَنْ
تَسخِيرِ الْمالِ فِيما يَنْفَعُهُ وَيَنْفَعُ مَنْ يَعُولُ. فَكَمْ مِنْ شَخْصٍ
يَدْفَعُ الْمالَ الكَثِيرَ فِي الكَمَالِيَّاتِ، وَيَتَثاقَلُ أَنْ يَدْفَعَ
عُشْرَ مِعْشارِها فِي الصَّدَقَةِ؟! وَكَمْ مِنْ شَخْصٍ أَرْهَقَتهُ الدُّيُونُ،
وَعَجِزَ عَنْ تَوْفِيرِ مَسْكَنٍ لَهْ وَلِزَوْجَتِهِ وَأَوْلادِهِ بِسَبَبِ
النَّفَقَةِ فِيمَا لَا يُفِيدُ، أَوْ التَّوَسُّعِ فِي الكَمَالِيَّاتِ، أَوْ الْمُجَامَلَاتِ،
بَلْ وَحَتَّى في الزِّياراتِ الْمُعْتادَةِ بَيْنَ الأُسَرِ لا يَذْهَبُونَ إلا
وَمَعَهُم هَدِيَّةٌ قَدْ يُسَبَّبُونَ فِيها حَرَجًا لِغَيْرِهِمْ؟!. وَفِي هذِهِ الأيَّامِ اعْتادَ الناسُ أَنْ يُعَبِّرُوا عَنْ
فَرَحِهِمْ بِإقامَةِ الحَفَلَاتِ، حَتَّى
ذَهَبَ طَعْمُ الحَفَلَاتِ لِكَثْرَتِها، فَمَا مِنْ مُناسَبَةٍ إلَّا
وَيُقِيمُونَ لَهَا حَفْلَةً: سَواءً كانَتْ قَبُولًا في وَظِيفَةٍ، أَوْ
تَخَرُّجًا، أوْ غَيْرَ ذلك، بَلْ وَصَلَ الأَمْرُ إلى إقامَةِ حَفْلَةٍ لِمَنْ
يَتَخَرَّجُ مِن التَّمْهِيدِي. وَكُلُّ مَنْ حَضَرَ فَإِنَّه قَدْ يَسْتَحْيِي،
فَيَضْطَرُّ إلى إحْضارِ هَدِيَّةٍ لِصاحِبِ الحَفْلَةِ، حَتَّى أصْبَحَ التَّبْذِيرُ
أَمْرًا مُعْتادًا في الحَفَلاتِ في جَمِيعِ صُوَرِها وُمناسَباتِها. والْمُصِيبَةُ أَنَّكَ تَرَى كَثِيرًا مِن الآباءِ
يَشْكُونَ مِنْ قِلَّةِ الدَّخْلِ، أوْ عَدَمِ تَغْطِيَةِ الْمَصارِيفِ، وَهُمْ
يُنْفِقُونَ بِهَذِهِ الطَّريقَةِ، التي تَضُرُّهُمْ، ولا تُرَبِّي أَوْلادَهُمْ
عَلى احْتِرامِ النِّعَمِ، وَحُسْنِ التَّصَرُّفِ في الْمالِ. فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وابْذُلُوا
أسبابَ صَلَاحِ قُلُوبِكُم، وَتَجَنَّبُوا كُلَّ مَا يُفسِدُها مِنْ قَوْلٍ أَوْ
عَمَلٍ. اللهُمَّ
لَا تَجْعَلْ الدنيا أكبرَ هَمِّنَا، ولَا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولَا تُسَلِّطْ
عَلَيْنا مَنْ لَا يرْحَمُنا، اللهُمَّ خّلِّصْنا من حقوقِ خلقِك، وباركْ لنا في
الحلالِ من رزقِك، وتوفَّنَا مسلمين وألحقْنا بالصالحين، اللهُمَّ أصلحْ قلوبَنا وأعمالَنا
وأحوالَنا، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ المسلمين، اللهُمَّ اجمعْ كلمةَ المسلمين على كتابِك
وسنَّةِ نبيِّك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، اللهُمَّ اجعلْ كلمتَهم واحدةً ورايتَهم
واحدةً، واجعلْهم يداً واحدةً وقوةً واحدةً على من سُواهم، ولا تجعلْ لأعدائِهم
مِنَّةً عليهم يا قويُّ يا عزيزُ، اللهُمَّ احقنْ دماءَ المسلمين، اللهُمَّ احقنْ
دماءَ المسلمين، اللهُمَّ انصر المجاهدين في سبيلِك في كلِّ مكان، اللهُمَّ عليك
بالكفرةِ والملحدينَ يَصُدُّون عن دينِك ويقاتِلونَ عبادَك الْمُؤمنين، اللهُمَّ
عليك بهم فإنَّهم لا يعجزُونَك، اللهُمَّ زَلْزلِ الأرضَ مْنْ تحتِ أقدامِهم،
اللهُمَّ سَلِّطْ عليهم مَنْ يسومُهم سُوءَ العذابِ يا قويُّ يا متينُ، اللهُمَّ
احفظْ بلادَنا من كيدِ الكائدين وعدوانِ المعتدين، اللهُمَّ احفظْ لهذه البلادِ
دينَها وعقيدتَها وأمنَها وعزتَها وسيادتَها، وأصلحْ أهلَها وحكَّامَها يا أرحمَ
الراحمين، اللهُمَّ اغفرْ للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياءِ منهم
والأمواتِ ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ. ( وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ). . وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا : http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|