أَهَمِّيَّةُ السُّنَّةِ وَبَيانُ مَنْزِلَتِها مِنْ
القُرْآنِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها الناسُ: اتَّقُوا اللهَ تَعالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ سُنَّةَ رَسولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْه
وَسَلَّمَ أَحَقُّ مَا اعْتَنَى بِهِ الْمُسْلِمُ،
وَأَوْلَى مَا صَرَفَ فِيهِ أَوْقاتَه، لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ الهِدَايَةَ فِي
طاعةِ رَسولِهِ صلى اللهُ عَلَيْه وسلمَ، والسَّيْرِ عَلَى هَدْيِهِ فَقالَ: ( وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا
). وَقالَ تَعالَى: ( وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ). وَيَجِبُ عَلَيْنَا يَا عِبادَ اللهِ أَنْ نَعْلَمَ بِأَنَّ
السُّنَّةَ وَحْيٌ مِن اللهِ، كَمَا أَنَّ القُرْآنَ وَحْيٌ. قال تَعالَى: ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ). وَقالَ صلى الله عليه وسلم: ( أَلَا
وَإِنِّي أُوْتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَه
). قالَ حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ رَحِمَه اللهُ: ( كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى
رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ بِالسُّنَّةِ، كَمَا كانَ يَنْزِلُ
عَلَيْهِ بِالقُرْآنِ ).
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ وَحْيٌ مِن اللهِ
أَيْضًا: أَنَّ رَجُلًا جاءَ إِلَى النبيِّ صلى
اللهُ عَلَيْه وَسلَّمَ وَهُوَ بِالْجِعْرانَةِ، فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ،
كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَقَدَ لَبِسَ الجُبَّةَ وَتَضَمَّخَ
بِالطِّيبِ؟ فَسَكَتَ النبيُّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساعَةً، فَجاءَهُ
الوَحْيُ، فَقالَ: ( أَيْنَ السَّائِلُ عَن
العُمْرَةِ؟ ) فَأُتِيَ بِالرَّجُلِ، فَقالَ لَهُ
النبيُّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم:( اغْسِلِ
الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأْنْزِعْ عَنْكَ الجـُبَّةَ،
وَأْصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ ). فَهَذا الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه
وسلمَ لَمْ يَذْكُرِ الحُكْمَ لِلسائِلِ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْه الوَحْيُ، مِمَّا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ وَحْيٌ، كَمَا أَنَّ القُرْآنَ وَحْيٌ.
وَيَجِبُ عَلَيْنَا أيْضًا:
أَنْ نَعْتَقِدَ بِأَنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ القُرْآنَ، وَتُبَيِّنُهُ،
وَتُخَصِّصُهُ، وَتَنْسَخُهُ، بَلْ وَتَأْتِي بِأْحكامٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا فِي
القُرْآنِ.
فَالْأَمْرُ الأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ القُرْآنَ. وَمِمَّا وَرَدَ فِي ذلك قَوْلُه تَعالَى: ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )، حَيْثُ فَسَّرَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الحُسْنَى: هِيَ الجَنَّةُ.
والزِّيادَةَ: هِيَ رُؤْيَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
الأَمْرُ الثاني: أَنَّ السُّنَّةَ تُبَيِّنُ القُرْآنَ. أَيْ تُبَيِّنُ مَا أُجْمِلَ مِنْ القُرآنِ، فَاللهُ تَعالَى
أَمَرَ بِالصلاةِ، وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْ صِفَةَ الصَّلاةِ. وَاللهُ أَمَرَ
بِالزكاةِ، وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْ أَحْكامَ الزَّكاةِ. وَلِذلِكَ لَا نَجِدُ
صِفَةَ الصلاةِ وَأَحكامَ الزكاةِ مُفَصَّلَةً وَمُبَيَّنَةً كَمَا هِيَ فِي
السنة.
الأَمْرُ الثالِثُ: أَنَّ السُّنَّةَ تُخَصِّصُ القرآنَ. وَمِمَّا وَرَدَ في ذلِكَ قَوْلُه تَعالَى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ )، فَلَوْ أَكْتَفَيْنَا بِهذِهِ الآيَةِ لَمَا اسْتَثْنَيْنَا
مَيْتَةَ الجَرَادِ وَمَيْتَةَ البَحْرِ، وَلَمَا اسْتَثْنَيْنَا مِن الدِّماءِ
الكَبِدَ والطِّحالَ. وَلَكِنْ جاءَ فِي السُّنَّةِ مَا يَسْتَثْنِى مِنْ
المَيْتاتِ مَيْتَةَ البَحْرِ وَمَيْتَةَ الجَرادِ، وَمِنْ الدِّماءِ الطِّحالِ
وَالْكَبِدِ. قال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: ( أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمانِ، فَأَمَّا المَيْتَتَانِ
فَالجَرَادُ وَالحُوتُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالطِّحالُ وَالكَبِدُ ). وَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلم فِي البَحْرِ: (
هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ ).
الأَمْرُ الرابِعُ: أَنَّ السُّنَّةَ تَنْسَخُ بَعْضَ الأَحْكامِ
التي فِي القُرْآنِ. وَمِمَّا وَرَدَ فِي
ذَلِكَ، قَوْلُهُ تَعالَى: ( كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ). فَهَذِهِ الآيَةُ ظَاهِرَهَا أَمْرُ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ
أَنْ يُوصِيَ لِلْوَرَثَةِ أَوْ لِبَعْضِ الوَرَثَةِ كَالْوَالِدَيْنِ لَكِنْ
جَاءَ فِي السُّنَّةِ مَا نَسَخَ هذا الحُكْمَ، وَعَلَى تَحْرِيمِ الوَصِيَّةِ
لِلْوارِثِ، قَال رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا
وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ). فَهذا الحَدِيثُ
نَاسِخٌ لِلآيَةِ الكَرِيمَةِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْـحمدُ للهِ ربِّ
العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين،
وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ
مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ اللهِ: الْأَمْرُ الخامِسُ: أَنَّ السُّنَّةَ تَأْتِي بِأَحْكامٍ
زَائِدَةٍ. وَمِمَّا وَرَدَ في ذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعالَى: ( وأُمَّهاتُكُمُ اللّاتِي أرْضَعْنَكم
وأخَواتُكم مِنَ الرَّضاعَةِ ) وَلَمْ يَرِدْ
في القُرْآنِ ذِكْرُ الجَدِّ وَالجَدَّةِ وَالعَمِّ وَالعَمَّةِ والخالِ والخَالَةِ
مِن الرَّضاعَةِ، وَلَكِنْ قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم. ( يَحْرُمُ مِن الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِن النَّسَبِ ).
وَمِن الأَمْثِلَةِ أَيْضًا:
قَوْلُهُ تَعالَى: ( وَأن تَجْمَعُوا بَيْنَ
الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ
)، فَحَرَّمَ اللهُ تَعالَى عَلَى الرَّجُلِ فِي هَذِهِ الآيَةِ أَنْ يَجْمَعَ
بَيْنَ الأُخْتَيْنِ فِي النِّكاحِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي القُرْآنِ ذِكْرُ العَمَّةِ
وَالخَالَةِ وَبِنْتِ الأَخِ وَبِنْتِ الأُخْتِ، وَلَكِنْ جَاءَ ذَلِكَ فِي
السُّنَّةِ، حَيْثُ قالَ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّم: ( لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِها وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ
وَخالَتِها ).
وَمِن الأَمْثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: قَوْلُهُ تَعالَى: ( حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ )، وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ تَحْرِيمٌ زَائِدٌ عَلَى مَا وَرَدَ
فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ، قالَ رَسولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْه وسلم قال: ( كُلُّ ذِي نَابٍ مِن السِّباعِ فَأَكْلُهُ حَرامٌ ) ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: ( وَكُلُّ
ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ ).
فَهذا كُلُّهُ يَا عِبَادَ اللهِ يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ
السُّنَّةِ وَمَنْزِلَتِها، وَلِذلكَ كانَ
الصحابةُ رضيَ اللهُ عَنْهُمْ يَعْتَنُونَ بِهَا أَشَدَّ العِنايَةِ
وَيَسْتَدِلُّونَ بِها كَمَا يَسْتَدِلُّونَ بِالقُرْآنِ فِي جَمِيعِ مَا
يَتَعَلَّقُ بِدِينِهِمْ. جاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُود رَضِيَ اللهُ
عَنْه فَقالَت: " سَمِعْتُكَ تَلْعَنُ النَّامِصَةَ وَالمُتَنَمِّصَةَ
والوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ؟ فَقالَ: وَمَالِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ الْمِصْحَفَ
مِن اللَّوْحِ إلَى اللَّوْحِ، فَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ، فَقالَ رَضِيَ اللهُ عَنْه: وَلَكِنِّي وَجَدْتُهُ.
قَالَتْ: أَيْنَ؟ قالَ: فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: ( وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ".
اللهم عَلِّمْنا مَا يَنْفَعُنَا وَانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا،
وفَقْهِنَا في دِينِكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ أَتْباعِ نَبِيِّكَ صلى اللهُ
عليه وسلم ظاهِرًا وباطِنًا، واحشرنا في زمرتِه وارزقنا ورودَ حوضِه ومرافقَتِه في
أعلى الجنةِ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ حَبِّبْ إلينا الإيمانَ وزَيِّنْه
في قلوبِنا وكَرِّه إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ واجعلنا من الراشدين.
اللهم خَلِّصْنا من حقوقِ خلقِك، وباركْ لنا في الحلالِ من رزقِك،
وتوفَّنا مسلِمِين وألحقْنَا بالصالحينَ، اللهُمَّ أصلحْ قلوبَنا وأعمالَنا
وأحوالَنا ، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ المسلمين، اللهُمَّ أنزلْ على الْمسلمينَ رحمةً
عامَّةً وهدايةً عامَّةً، اللهُمَّ ارفع البلاءَ عن الْمستضعفينَ من المؤمنين في
كلِّ مكانٍ، اللهم احفظْ بلادَنا من كيدِ الكائدينَ وعُدْوانِ المعتدينَ، اللهُمَّ
وَفِّقْ ولاةَ أمرِنا بتوفيقِك، وأيِّدْهم بتأييدِك ، واجعلهم من أنصارِ دينِك،
وارزقْهُم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغفرْ
للمسلمين والمسلماتِ والمؤمنين والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ ، إنك سميعٌ
قريبٌ مجيبُ الدعواتِ ، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ
أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}
.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|