نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما
كَثيرٌ مِن الناسِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ
ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ:
اتَّقُوا اللهَ تَعالَى واشْكُرُوه عَلَى نِعَمِهِ، فَإِنَّ نِعَمَ اللهِ تَعالَى
عَلَى عِبادِهِ كَثِيرَةٌ، قال تعالى: ( وَإِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا )، وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ هذِه
النِعَمِ: ما ثَبَتَ عَن النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم قال: ( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِن الناسِ:
الصِّحَّةُ والفَراغُ )، وَلَا يَعْنِي ذلكَ أَنَّ هاتَيْنِ
النِّعْمَتَيْنِ أَفْضَلُ النِّعَمِ، فَإِنَّ أَفْضَلَ النِّعَمِ عَلَى الإطْلاقِ:
نِعْمَةُ الإسلامِ التي جَعَلَهَا اللهُ تَعالَى سَبَبًا لِرضَاه والفَوْزِ
بِجَنَّتِهِ. وَإِنَّمَا الْمُرادُ بَيانُ عِظَمِ شَأْنِ هاتَيْنِ
النِّعْمَتَيْنِ.
فَأَخْبَرَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم
أنَّه: ( مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِن الناسِ
)، أيْ: فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسْتَغِلَّ هاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ، فَهُوَ فِي
غَبْنٍ وخَسارَةٍ، كالتاجِرِ الذي يَمْلِكُ سِلْعَةً ثَمِينَةً، ثُمَّ يَبِيعُها
بِثَمَنٍ بَخْسٍ، فَإِنَّه يَشْعُرُ بِالغَبْنِ، وهكذا مَنْ فَرَّطَ فِي هاتَيْنِ
النِّعْمَتَيْنِ، وَيَظْهَرُ ذلك جَلِيًّا عِنْدَ الْمَوْتِ، قال تعالَى: ( حَتّى إذا جاءَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *
لَعَلِّي أعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ )، يَتَذَكَّرُ ما كان فِيهِ مِنْ
مُهْلَةٍ وَفُسْحَةٍ فِي حَياتِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَيَنْدَمُ وَيَتَمَنَّى
الرُّجُوعَ. وكذلك تَزْدادُ هذِه الحَسْرَةُ والنَّدامَةُ يَوْمَ القِيامَةِ، كما
قال تعالى: ( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ
ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ).
والصِّحَّةُ: هِيَ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الإنسانُ مِن
سَلامَةٍ في عَقْلِهِ وَقُوَّةٍ في بَدَنِهِ وَسَمْعِهِ وبَصَرِهِ. وكان النبي صلى
الله عليه وسلم يُكثِرُ أَنْ يَقُولَ: ( وَمَتِّعْنَا
بِأَسَماعِنَا وأَبْصارِنا وَقُوَّتِنا ما أَحْيَيْتَنا، واجْعَلْه الوارِثَ
مِنَّا )، لِأَنَّ ذلكَ مِنْ حَسَنَةِ الدنيا التي يَهَبُها اللهُ تعالَى
لِعَبْدِه، وِلِأَنَّ العَبْدَ لا يَتَمَكَّنُ مِنْ القِيامِ بِمَصالِحِهِ
الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ كَمَا يَنْبَغِي إلا إذا كان سَلِيمًا مُعافَى،
فَيَنْبَغِي لِلْمُؤمِنِ القَوِيِّ السَّلِيمِ الْمُعافَى أَنْ يَشْكُرَ نَعْمَةَ
اللهِ فَيَسْتَغِلَّ صِحَّتَه وَقُوَّتَه ونَشاطَه فِيما يُقَرِّبُهُ إلى الله،
وَمَنْ أرادَ مَعْرِفَةَ قَدْرِ هذِه النِّعْمَةِ فَلْيَزُرْ الْمَرْضَى
والعاجِزِينَ عَنْ القِيامِ بِمَصالِحِهِمْ, فَهُمْ أعْرَفُ الناسِ بِذلك.
وأمَّا الفَراغُ:
فَهُوَ خُلُوُّ البَدَنِ مِنْ الْمَشاغِلِ، وَخُلُوُّ الذِّهْنِ مِن الشَّواغِلِ
والـهُمُومِ والغُمُومِ. فَإِنَّ العَبْدَ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا سَلِيمًا،
لَكِنَّه مَشْغُولٌ عَن القِيامِ بِمَصالِحِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فارِغًا، لَكِنَّه
مَرِيضٌ أَوْ ضَعِيفٌ. ثُمَّ إِنَّه قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا سَلِيمًا فارِغًا مِن
الأعمالِ التي تُشْغِلُه وَتُلْهِيه، لَكِنَّهُ مَشْغُولُ الذِّهْنِ، مَهْمُومٌ
مَحْزُونٌ كَثِيرُ التَّفْكِيرِ، شارِدُ الذِّهْنِ بِسَبَبِ مُصِيبَةٍ تَحِلُّ
بِهِ، أَوْ وَساوِسَ واكْتِئَابَاتٍ تُعِيقُهُ عَن الجِدِّ والاجْتِهادِ
واسْتِغْلالِ الصِّحَّةِ والفَراغِ فِيما يَنْفَعُ، ولِذلكَ تَجِدُونَ الشَّخْصَ
الْمَهْمُومَ أَوْ الْمُبْتَلَى بِدَيْنٍ، أَوْ حَسَدٍ وَحِقْدٍ، أَوْ عِشْقٍ
وَغَرامٍ، أَقَلَّ الناسَ اسْتِفادَةً مِنْ أَوْقاتِهِمْ، وَأَكْسَلَ الناسِ عَنْ
الحِفْظِ والتِّلاوَةِ والتَزَوُّدِ مِن العِلْمِ، وَأَفْشَلَ الطُّلَّابِ في
الدِّراسَةِ، وَلِذلكَ كانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم كانَ كثيرًا ما
يَقُولُ: ( الَّلهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ
الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ والبُخْلِ والجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ
وَغَلَبَةِ الرِّجالِ ). وإذا كانَ مَنْ لَمْ يَسْتَغِلَّ صِحَّتَهُ
وَفَراغَهُ فِيما يَنْفَعُهُ في دِينِهِ وَدُنْياهُ مَغْبُونًا، فَكَيْفَ بِمَنْ
يَسْتَغِلُّ فَراغَه وَطاقَتَه بِالاْسْتِخْدامِ الْمُفْرِطِ لِلْجَوَّالِ
وشَبِكاتِ وَمَواقِعِ التَواصُلِ، ومَا تُورِثُهُ مِن غَفْلَةٍ وقَسْوَةٍ
وإِدْمانٍ، واضْطِرابٍ نَفْسِيٍّ، وتَضْيِيعٍ لِلْمَصالِحِ، وَتَباعُدٍ وتَجافِي
بَيْنَ الجُلَساءِ وأَفْرادِ الأُسْرَةِ، وتَدْمِيرٍ لِسُلُوكِيَّاتِ وَعَقائِدِ
كَثِيرٍ مِنْ الأَجْيالِ؟
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمدُ للهِ الْواحدِ الأحدِ الصمدِ الذّي
لَمْ يَلدْ وَلَمْ يُولدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحد، فَاطرِ السِّمَاواتِ وَالأَرْضِ،
جَاعَلِ الْمَلائكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحةً مَثْنَى وَثلاثَ وَرباعَ، يَزِيدُ
فِي الْخَلِقِ مَا يَشاءُ، إنّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِير، مَا يَفْتَحِ اللهُ
للنِّاسِ مِنْ رَحمةٍ فَلا مُمسكَ لها، وَمَا يُمسكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد:
عِبادَ الله:
إِنَّ البُعْدَ عَنْ طاعةِ اللهِ، والوُقُوعَ في الْمَعاصِي، مِنْ أَكْبَرِ أسبابِ
أَمْراضِ القُلُوبِ وانْشِغالِها، يَقُولُ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( إذا أَذْنَبَ العَبْدُ, نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ
سَوْداءُ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ واسْتَغْفَرَ، صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ،
زِيدَ فِيها، حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الذي قالَ اللهُ تَعالَى:
" كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ "
)، فَالْمَعاصِي تُورِثُ فِي القَلْبِ ظُلْمَةً
وَهَمًّا وَغَمًّا وَقَلَقًا واكْتِئَابًا. وَالْمَعاصِي
يا عِبادَ اللهِ، تُورِثُ في القَلْبِ وَحْشَةً عَنْ كُلِّ خَيْرٍ،
وَأَعْظَمُها وَأَشَدُّها: وَحْشَةٌ بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، تَجْعَلُهُ
لا يَتَلَذَّذُ بِطاعَةِ اللهِ، فَلَا يَتَلَذَّذُ بالصَّلاةِ التي هِيَ راحَةُ القَلْبِ
وانْشِراحُهُ. بَلْ هِيَ أَثْقَلُ شَيْءٍ عَلَى الْمُنافِقِينَ والعُصاةِ. وَالْمَعاصِي تُورِثُ فِي القَلْبِ وَحْشَةٌ بَيْنَ
العَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، تَجْعَلُهُ هاجِرًا لِذِكْرِ اللهِ، وهاجِرًا
لِتلَاوَةِ القُرآنِ، مُقِلًّا مِن الدُّعاءِ والتَضَرُّعِ إلى اللهِ،
والإِطِّراحِ بَيْنَ يَدَيْهِ، تَجْعَلُهُ يَنْفِرُ عَنْ أَهْلِ الطاعَةِ،
وَمَجالِسِ الذِّكْرِ والعلم.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ وَراقِبُوا
أَنْفُسَكُمْ وحاسِبُوها، وَاحْرِصُوا عَلَى تَزْكِيَتِها بِالعِلْمِ النافِعِ
والعَمَلِ الصالِحِ. وتَذَكَّرُوا الغَايَةَ التي مِنْ أَجْلِها خٌلِقْتُمْ، ولا
تَغْفَلُوا عَنْها.
الَّلهُمَّ
آتِ نُفُوسَنَا تَقْواها، وَزَكِّها أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاها، اللهم خلصنا من
حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم
أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أنزل على الْمسلمين
رحمة عامة وهداية عامة، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين
واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن الْمستضعفين من
المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم
احفظ بلادنا مما يكيد لها، اللهم عليك بأعدائها في الداخل والخارج، اللهم أخرجها
من الفتن والشرور والآفات، واجعلها أقوى مما كنت، وأمكن مما كانت، وأغنى مما كانت،
وأصلح مما كانت، اللهم أصلح حكامها وأهلها واجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم
يدا واحدة على من عداهم يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، (وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|