ما
يَرْفَعُ اللهُ بِه الدرجات ويَمْحُو بِه الخَطايَا
إِنَّ
الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ
شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا
مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد، أيُّها
الناسُ: اتقُوا اللهَ تَعالى، واعْلَمُوا أَنَّ الوَقْتَ ثَمِينٌ، فَلا
تُفَرِّطُوا فِيهِ، وَلا تُهْدِرُوه، واسْتَغِلُّوه فِيما يَنْفَعُكُمْ بَعْدَ
مَوْتِكُم. واعْلَمُوا أَنَّ "النفسَ إنْ لَمْ
يُشْغِلُها صاحِبُها بالطاعةِ، شَغَلَتْهُ بِالمَعْصِيَةِ، أَوْ بِما لا يُفِيدُ".
ولِذلكَ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَبدِاللهِ بنِ عُمَرَ رضي اللهُ
عَنْهُما: ( كُنْ في الدنيا كَأَنَّكَ غَريبٌ، أو عابِرُ سَبِيلٍ ) ، فَكانَ
عُبْدُ اللهِ يَقُولُ: " إذا أَصْبَحْتُ فَلا تَنْتَظِرِ الْمَساءَ، وإذا
أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ ". أيْ: اعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ إذا
أصْبَحَ، أَيْقَنَ أَنَّه لَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ الْمَساءُ إلا وَهُوَ مِن
الأَمْواتِ، وإذا أَمْسَى، أَيْقَنَ أَنَّه لَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ الصباحُ إلا
وَهُوَ مِن الأَمْواتِ. هكذا يكون العبدُ الكَيِّسُ: ( كَراكِبٍ استَظَلَّ تَحْتَ
شَجَرَةٍ ثُمَّ ذَهَبَ وتَرَكَها ). وهذا مِنْ أعظَمِ ما يُعينُ المَرْءَ عَلَى
مُلازَمَةِ التَّوْبَةِ، واسْتِغْلالِ وَقْتِهِ، وصِيانَةِ جَوارِحِه، وتَخْلِيصِ
نَفْسِهِ مِنْ حُقُوقِ العِبادِ. وَقَدْ أَرْشَدَنا رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه
وسلم إلى شَيْءٍ مِنْ ذلكَ، عِنْدَما قال لِأَصْحابِهِ: ( أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى ما يَمْحُو اللهُ بِهِ الخَطايا، وَيَرْفَعُ
بِهِ الدَّرجاتِ؟ ) قالُوا بَلَى يا رسولَ اللهِ، قال: ( إِسْبَاغُ الوُضُوءِ عَلَى المَكارِهِ، وَكَثْرَةُ الخُطَى
إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصلاةِ بَعْدَ الصلاةِ، فَذَلِكُم الرِّباطُ
). فَفِي هذا الحديثِ، عَرَضَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عَلَى أصحابِهِ
عَرْضًا، يَعْلَمُ ماذا سَيَقُولُونَ فِي جَوابِه، وذلكَ مِنْ حُسْنِ تَعْلِيمِهِ
عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ، أَنَّه أَحْيانًا يَعْرِضُ المَسائِلَ عَرْضًا، حَتَّى
يَنْتَبِهَ الإنسانُ لِذلكَ، وَيَعْرِفَ ماذا سَيُلْقَى إِلَيْه، وَمِن
المَعْلُومِ أَنَّهُم سَيَقُولُونَ: نَعَمْ يا رسولَ اللهِ أَخْبِرْنا. فَاتَّخَذَ
هَذِه الصِّيغَةَ، وهذا الأُسْلُوبَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْتَبِهُوا، وَلِذلكَ قالُوا:
بَلَى يا رسولَ اللهِ، أَيْ أَخْبِرْنا فَإِنَّنا نَوَدُّ أَنْ نَعْلَمَ بِمَا
تُرْفَع بِهِ الدَّرَجاتُ، وتُمْحَى بِهِ الخَطايا، فَذَكَرَ لَهُمْ هذِه الأعمالَ
الثَّلاثَة: أَوَّلُها:
إسْباغُ الوُضُوءِ عَلَى المَكارِهِ، أَيْ إتمامُ الوُضُوءِ، وَمُوافقَةُ
السُّنَّةِ فِي الأَحْوالِ التي يَثْقُلُ فِيها الوُضُوءُ، وَيَكُونُ فيه
مَشَقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ، كالوُضُوءِ أيامَ الشِّتاءِ، أَوْ أَنْ يُعَوِّدَ
المُسْلِمُ نَفْسَهُ عَلَى الوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاةٍ، فإنَّ مِثْلَ هذا العَمَلِ
يَحْتاجُ إلى صَبْرٍ ومُجاهَدَة، ولِذلِكَ قال عليه الصلاةُ والسلام: ( وَلا
يُحافِظُ عَلَى الوُضُوءِ إلا مُؤْمِنٌ ).
ثانياً:
كَثْرَةُ الخُطَى إلى المَساجِدِ، وَذلك بِالْمَشْيِ عَلَى
الأَقْدامِ إِلَيْها، وَلَوْ بَعُدَ المَسْجِدُ، فَإِنَّهُ كُلَّما بَعُدَ
المَسْجِدُ عَنْ البَيْتِ، ازْدادَتْ حَسَناتُ الإنسانِ، لِأَنَّ الإنسانَ إذا
تَوَضَّأَ في بَيْتِهِ وَأَسْبَغَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ إلى المَسْجِدِ،
لا يُخْرِجُه إلا الصلاةُ ، لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً واحِدَةً إلا رَفَعَ اللهُ لَهُ
بِها دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْه بِها خَطِيئَةً. وَقَوْلُه: ( وَكَثْرَةُ الخُطَى )
يَدُلُّ عَلَى المُدَاوَمَةِ عَلَى ذلك، وَكُلَّما كَثُرَتْ الخُطَى كانَ الأَجْرُ
أَعْظَمَ، وَكُلَّما كان الطريقُ أَشَّقَّ، كان الثَّوابُ أكْثَرَ، وَلِذلكَ صارَ
الْمَشْيُ فِي الظُّلَمِ أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ
والسلامُ: ( بَشِّرِ المَشَّائِينَ في الظُّلَمِ إلى المَساجِدِ بِالنُّورِ
التامِّ يَوْمَ القيامةِ ). فَيَا لَهُ مِنْ ثَوابٍ عَظِيمٍ، فَرَّطَ فِيهِ كَثيرٌ
مِن الناسِ اليَوْمَ. فَالْمُسْلِمُ الذي يُواظِبُ عَلى صَلاةِ الفَجْرِ مِنْ أَعْظَمِ
المجاهدين، حَيْثُ جَاهَدَ نَفْسَهُ أَوَّلًا: عَلَى الاسْتِيقاظِ وَهَجْرِ
الفِراشِ والراحةِ. ثانِيًا: إسباغِ الوُضُوءِ، وإذا كان جُنُبًا
اغْتَسَلَ. ثالثاً: ذَهابِهِ إلى المَسْجِدِ وَقْتَ
السُّكُونِ والظُّلْمَةِ وَقِلَّةِ الْمُعِينِ. وهذا
العَمَلُ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ شَهْرٍ أو
شَهْرَيْنِ. وإنَّما دائِمٌ مُسْتَمِرٌّ. فَيَا لَه مِنْ جِهاد، وَصَبْرٍ
ومُصابَرَةٍ. باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم. الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ
مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً
كثيراً . أَمّا بَعدُ عِبادَ اللهِ:
والعَمَلُ الثالثُ في الحديثِ الذي سَمِعْتُمُوهُ: ( انْتِظارُ
الصلاةِ بَعْدَ الصلاةِ )، أَيْ أَنَّ العَبْدَ مِنْ شِدَّةِ شَوْقِهِ إلى
الصَّلَواتِ، وتَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِها وبِالمَسْجِد، كُلَّمَا فَرَغَ مِنْ
صَلاةٍ، انْشَغَلَ قَلْبُه بِالصلاةِ الأُخْرَى يَنْتَظِرُها، لِأَنَّ قَلْبَهُ لا
يَطْمَئِنُّ ولا يَرْتاحُ، ولا يَجِدُ السعادةَ والاِنْشِراحَ إلا بِها، وهذا
يَدُلُّ عَلَى إيمانِه وَمَحَبَّتِهِ وَشَوْقِه لِهذِهِ الصَّلَوَاتِ العظيمةِ،
التي قال عَنْها رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم ( وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في
الصلاةِ ). فَتَجِدُهُ مَهْمُومًا بِها، مَشْغُولَا بِها عَنْ أَكْثَرِ شُؤُونِهِ
ومَصالِحِه، ولِذلكَ قال صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ الحديثِ: ( فَذَلِكُم
الرِّباطُ )، وَأَصْلُ الرِّباطِ: الإقامةُ عَلَى جِهادِ العَدُوِّ في الحَرْبِ،
وارتباطُ الخَيْلِ وإعْدادُها، وهذا مِنْ أَعْظَمِ الإعمالِ، فَلِذلكَ شَبَّهَ
بِهِ ما ذَكَرَ مِن الأَعْمالِ الصالِحةِ والعبادةِ في هذا الحديثِ، أَيْ أَنَّ الْمُواظَبَةَ
على الطهارةِ والصلاةِ والعبادةِ، كالجِهادِ في سبيلِ اللهِ، وَلِأَنَّ هذِه
الأعمالَ تَرْبِطُ صاحِبَها عن الْمَعاصِي وتَكُفُّهُ عَنْها. خُصُوصًا الصلاةَ،
فَإِنَّها كالْمَاءِ بالنِّسْبَةِ لِلنارِ، تُطْفئُ حَرِيقَ الْمَعاصِي، كَما قال
عبدُاللهِ بنُ مَسْعُودِ رضي الله عنه: ( تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ، فإذا
صَلَّيْتُم الصُّبْحَ غَسَلَتْها، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ، فإذا
صَلَّيْتُم الظُّهْرَ غَسَلَتْها، ثُم تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فإذا
صَلَّيْتُم العَصْرَ غَسَلَتْها، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُون فإذا
صَلَّيْتُم المَغْرِبَ غَسَلَتْها، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإذا
صَلَّيْتُم العِشاءَ غَسَلَتْها، ثُمَّ تَنامُونَ فَلا يُكْتَبُ عَلَيْكُمْ حَتَّى
تَسْتَيْقِظُوا ). اللهم اسْتَعْمِلْنا فِي طاعتِكَ،
وَأَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، واجْعَلْنا مِمَّن إذا
أُعْطِيَ شَكَر، وإذا ابتُلِيَ صَبَرَ، وإذا أذْنَبَ اسْتَغْفَرَ يا رب العالمين، اللهم
آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم خلصنا من حقوق
خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم أصلح
أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم إنا نعوذ بك من
جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء، اللهم إنا نعوذ بك من زوال
نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك، اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء يا
أرحم الراحمين، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، ، اللهم احفظ
بلادنا مما يكيد لها، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها
وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا
الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوةً ومتاعاً إلى حين، اللهم أغثنا، غيثاً مُغِيثاً،
هنيئاً مريئاً، سحاً غدقاً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم اسقِ بلادك
وعبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت، اللهم أنزل علينا من السماء ماء
مباركاً تُغيث به البلاد والعباد وتعُمَّ به الحاضر والباد، اللهم إنا نستغفرك
ونتوب إليك، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك من جميع ذنوبنا، اللهم أغثنا، اللهم
أغثنا، اللهم أغثنا اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-119.html
|