سدُّ الذرائع
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أَيّها الْمسلمون: اتَّقُوا اللهَ تَعالَى،
واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ فَرَضَ فَرائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا
فَلَا تَعْتَدُوها. وَحَرَّمَ كُلَّ وَسِيلَةٍ تُفْضِي إِلَى الوُقُوعِ فِي
الحَرامِ، رَحْمَةً بِعِبادِهِ وَصِيانَةً لِدِينِهِمْ، لِأَنَّ العَبْدَ لا
يَضْمَنُ السَّلامَةَ مِنْ الوُقُوعِ في الحَرامِ إلَّا إذا ابْتَعَدَ عَنْ
الوَسائِلِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ. وَيُسَمَّى ذلك
عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ بِسَدِّ الذَّرائِعِ. والذَّرِيعَةُ: هِيَ كُلُّ
وَسِيلَةٍ تُؤَدِّي إلى مَمْنُوعٍ. أِوْ هِيَ: الفِعْلُ الذي ظاهِرُهُ أَنَّه
مُباحٌ لَكِنَّه يُؤَدِّي إِلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ. وهذا مَا يَجْعَلُ العَوَامَّ
أَحْيانًا يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمُ عَمَلٍ مِنْ الأعمالِ، أَوْ فَتْوَى
يَسْمَعُونَها فِي تَحْرِيمِ عَمَلٍ مُعَيَّنٍ، مَعَ أَنَّ ظاهِرَ هذا العَمَلِ
الإبَاحَةُ. بَيْنَمَا مُسْتَنَدُ التَّحْرِيمِ هُوَ الذَّريعَةُ والوَسِيلَةُ
إِلَى الحَرامِ. وَقَدْ دَلَّتْ الأَدِلَّةُ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ عَلَى هذِهِ
القاعِدَةِ العَظِيمَةِ، وَهِي مَوْجُودَةٌ مُنْذُ أَنْ خَلَقَ اللهُ تَعالَى
آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَخَلَقَ مِنْهُ زَوْجَه حَواءَ، وَأَسْكَنَهُمَا
الجَنَّةَ، وأباحَ لَهُمَا ما فِيها، إلا شَجَرةً حَرَّمَ عَلَيْهِما الأكْلَ
مِنْها فَقالَ سُبْحانَه: ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ
اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا
وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ).
فَلَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِما الأَكْلَ مِن الشَّجَرَةِ، لَمْ يَقُلْ لَهُمَا لا
تَأْكُلَا. وإِنَّمَا نَهاهُمَا عَن الاقْتِرابِ مِنْها، مَعَ أَنَّه فِي لِأَنَّه
وَسِيلَةٌ إلى الأكْلِ مِنْهَا. وَمِنْ ذلكَ أَنَّ اللهَ تَعالَى نَهَى عَنْ سَبِّ
المشركِينَ أَوْ سَبِّ آلِهَتِهِم إذا كان يُؤَدِّي إلى سَبِّ اللهِ، فَقالَ
سُبْحانَه: ( وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ
مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ). وَمَنْ
تَأَمَّلَ الأدِلَّةَ التَّفْصِيلِيَّةِ في هذا البابِ، عَرَفَ أَنَّ اللهَ
تَعالَى حَرَّمَ جَمِيعَ الوسائِلِ الْمُؤَدِّيَةِ إلى الحَرامِ، وَسَدَّ
الأبْوابَ والطُّرُقَ الْمُؤَدِّيَةَ إلَيْه، والأَمْثِلَةُ عَلَى ذلك كَثِيرَةٌ، وَلَعَلَّنَا نَكْتَفِي بِذِكْرِ ثَلَاثَةٍ مِنْها: وَهِيَ
الشِّرْكُ بِاللهِ، والزِّنَا، والعَدَاوَةِ والبَغْضاءِ.
أمَّا
الشِّرْكُ: فَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ، وِلِذَلِكَ تَنَوَّعَتْ
الأَدِلَّةُ في بَيانِ ذِكْرِ وَسائِلِه. فَحَرَّمَ اللهُ تَعالَى الحَلِفَ
بِغَيْرِ اللهِ، لِأَنَّه يُؤَدِّي إلى تَعْظِيمِ الْمَخْلُوقِ وَرَفْعِهِ فَوْقَ
مَنْزِلَتِه. وَحَرَّمَ قَوْلَ لَوْلَا اللهُ وَفُلانٌ، ومَا شاءَ اللهُ وَشَاءَ
فُلانٌ، لِأَنَّ ظاهِرَ ذلكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الخالِقِ والْمَخْلُوقِ.
وَحَرَّمَ الصلاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ لِأَنَّها وَسِيلَةٌ إلى عِبادَةِ الْمَخْلُوقِ،
إلا صَلاةَ الجَنازَةِ، لِأَنَّه لا رُكُوعَ فِيها ولا سُجُودٍ. ويُلحَقُ بِذلكَ:
تَشْيِيدُ القُبُورِ وَرَفْعُها وَتَجْصِيصُها والكِتابَةُ عَلَيْها وبِناءُ الْمَساجِدِ
والقِبابِ عَلَيْها. وَحَرَّم الصلاةَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
غُرُوبِها، لِمَا في ذلكَ مِنْ التَشَبُّهِ بِمَنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ، مَعَ العِلْمِ
أَنَّ العَبْدَ إذا صَلَّاها فَإِنَّه يُصَلِّيها للهِ، لَكِنْ لَمَّا كانَ ظاهِرُ
العَمَلِ مُشابِهًا لِفِعْلِ الْمُشْرِكِينَ، نُهِيَ عَنْه.
والْمِثالُ
الثانِي: الزِّنَا، فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ كُلَّ وَسِيلَةٍ تُفْضِي
إِلَيْه، فَأَمَرَ المَرْأَةَ بِالحِجابِ، والقَرارِ في البَيْتِ، وحَرَّم
النَّظَرَ لِأَنَّه يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ فِي القَلْبِ، وَنَهَى عَن الخَلْوَةِ
بِالمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ، وَحَرَّمَ خُضُوعَ الْمَرْأَةِ بِالقَوْلِ
والتَّمَيُّعِ بِالكَلامِ لِأَنَّه يُفْضِي إلى طَمَعِ الرِّجالِ فِيها. وَحَرَّمَ
سَفَرَها بِلَا مَحْرَمٍ، وَخُروجَها مُتَعَطِّرَةً وَلَوْ كان إلى الْمَسْجِدِ.
كُلُّ ذلكَ سَدًّا لِذَريعَةِ الوُقُوعِ فِي الفَواحِشِ.
وأمَّا الْمِثالُ
الثالِثُ: فَهُوَ العَدَاوَةُ والبَغْضاءُ، فَإِنَّ الشارِعَ الحَكِيمَ
أَمَرَ باجْتِنابِ الأَعْمالِ، التي تُفْسِدُ النُّفُوسَ، وتَهْدِمُ أَوَاصِرَ الْمَحَبَّةِ،
وتنْشُرُ البَغْضاءَ والشَّحْناءَ، وتُثِيرُ العَدَاوَةَ والضغائنَ بين الْمؤمنين،
وتَدْفَعُ إلى الغضبِ والانتِقام. فَحَرَّمَ الفَخْرَ بالأحسابِ والطَّعْنَ في
الأنساب، والتَمْيِيزَ بَيْنَ الناسِ مِن خلالِ ذلك، وَحَرَّمَ النَّميمةَ، وهي
نَقْلُ الكلامِ بين الناسِ على وَجْهِ الإِفساد، بَلْ إنَّ إِفْسادَها أَشَدُّ
أنواعِ الإفسادِ، وَحَرَّمَ بَيْعَ الرَّجُلِ على بيعِ أخيه، أو شَراءَه على
شِرائِه. كَمَن يَرَى شَخْصاً قد باعَ سِلْعَةً بِمائةِ ريالٍ، فَيَأتي إلى الْمُشْتَرِي
فيقول: رُدَّها إلى صاحبِها وأنا أبيعُكَ بِأقَل. أو يقولُ للبائع: اسْتَرْجِعْ
سِلْعَتَكَ وأنا أشتريها بِأَكْثَر.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْـحمدُ للهِ ربِّ
العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين،
وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ
مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ
تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ الله:
ومِنْ الأُمُورِ التي تُثِيرُ العَدَاوَةِ وتُفْسِدُ النُّفُوسِ،
خِطْبَةُ الرَّجُلِ على خِطْبَةِ أخيه. ومن ذلك:
تَحْرِيمُ المَيْسِرِ والْمُغالَباتِ عَلَى عِوَضٍ، أَوْ ما يُسَمَّى بالْمُراهناتِ
بَيْنَ طَرَفَيْنِ، أَحَدُهُما غانِمٌ رابِحٌ، والآخَرُ غَارِمٌ خاسِر. وَيَكْثُرُ
في مُجْتَمَعِنا اليومَ لِعْبُ الوَرَقِ أو الكُرَةِ على عِوَضٍ بَيْنَ الْمُتَبَارِين،
يَدْفَعُهُ الْمَغْلُوبُ مِنْهُم، وقَدْ يكونُ العِوَضُ نقوداً أو وَلِيمَةً أو
غَيْرَ ذلك، وهذا مِن القِمار، فلا يَجُوزُ فِعْلُه.
ومِنْ ذلك:
سَبُّ وُلاةِ الأَمْرِ، وتَنَقُّصُهُم أَوْ انْتِقادُهُم عَلانِيَةً، لأن ذلكَ
يُفْضِي إلى نَشْرِ العَداواتِ والفَوضَى، وإيغارِ الصُّدُورِ عَلَيِهِم
وتَجَرُّؤِ الجُهّالِ والعابِثِينَ ومُثيرِي الفِتَن، قال رسولُ اللهِ صلى الله
عليه وسلم: ( مَنْ أرادَ أَنْ يَنْصَحَ لِذِي
سُلْطانٍ، فَلا يُبْدِهِ عَلانِيَةً، وَلْيَأْخُذْ بِيَدِهِ، فَإِنْ سَمِعَ مِنْهُ
فَذَاكَ، وإلاّ كان أَدَّى الذي عليه ).
ومِنْ أَعْظَمِ
أسبابِ العَدَواتِ والقَطيعة: عَدَمُ العَدْلِ بين الأولادِ في
العَطِيَّةِ والْمُعامَلَة. وهو ظاهِرةٌ نَفْسِيَّةٌ خَطيرةٌ في تَعْقِيدِهِم
وانحِرافِهِم وتَحْوِيلِ حياتِهِم إلى حَسَدٍ وشَقَاء، بَدَلاً مِن أن يَكُونُوا
قُرَّةَ عَيْنٍ لِوالِدَيهِم، وقُرَّةَ عَيْنٍ لِبَعْضِهِم، مُتَآلِفِينَ
مُتَوادِّين مُتَعَاضِدين. فَيَجِبُ على الوالِدَينِ أنْ يَتَّقُوا اللهَ ويَعْدِلُوا
بين أولادِهِم في جَميعِ أُمُوِر حَياتِهِم، وأن يُعِينُوهُم على أن يَكُونُوا
بَرَرَةً بِهِم، في حياتِهِم، بَلْ وحَتَّى بَعْدَ مَمَاتِهِم.
اللهمَّ
اهْدِنا لِأَحْسَنِ الأَخْلاقِ، لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها إلا أنت، واصرفْ عنا سيئَها
لا يصرف عنّا سيئها إلا أنت، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وفقهنا في
دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام
قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أعزَّ
الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك
المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ لبلادنا دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها
واستقرارها واحم حدودها وانصر جنودها يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق حكامنا
وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام والمسلمين يا حي يا قيوم، اللهم اغفر لموتى
المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك اللهم اغفر
لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج
والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا
إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|