عواقب الفتن
الحمدُ للهِ الذّي وسعتْ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ، وعمّ بفضلِهِ كلَّ حيٍّ،
أحمدُ ربِّي وأشكُرُهُ ما أعظمَ برَّه وأكثرَ خيرَه وأغزرَ إحسانه وأوسعَ امتنانَه،
وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له ولا ربَّ لنا سواه ولا نعبُدَ إلا إيّاه
، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وسلم تسليما كثيراً إلى يوم لقاه أما بعد:
أيها
المؤمنون: اتقوا الله تعالى وراقبوه جل وعلا في السر والعلانية والغيب والشهادة
مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه.
وحاذروا
أيها المؤمنون الفتن واتقوها؛ فإن في اتِّقاء الفتن : السعادة , ثبت في صحيح مسلم
من حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ))، وثبت
في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ
جُنِّبَ الْفِتَنَ)) قالها عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات.
أيها
المؤمنون والفتن في أول بروزها وبدوِّ ظهورها تشتبه على كثير من الناس؛ وإن أعظمَ ما تُتقى به الفتنة: تقوى الله جل
وعلا حقيقة لا مجرد سماع بها وعدم العمل بحقيقتها ،
أيها
المؤمنون: وإن من أعظمِ ما يتأكدُ في هذا المقام - مقامِ الفتن- وطريقةِ التعامُلِ
معها أن يتبصرَ المسلم في العواقب وأن يلزم التوأدة والتريث والسمع لكبار علمائنا
في هذا البلد المبارك أمثال اللجنة الدائمة وهيئة كبار العلماء فبهم نحفظ بإذن
الله .
عبادَ الله وعندما يتأمّلُ المؤمن في عواقبِ
الفتنِ ومآلاتِها قبل أن يقدِم على شيءٍ منها فإن الله يحميه .
وفي
هذهِ الوقفة - أيها المؤمنونَ عبادَ الله - إشارةٌ إلى شيءٍ قليل وأمرٍ يسير من عواقبِ الفتنِ ومآلاتِها التي لا تُحمد.
فمن
أعظم عواقبها: أنها تشغلُ العبدَ عما خُلقَ له وأوجدَ لتحقيقِه؛ من عبوديةٍ لله
وخضوعٍ له سبحانَه وتعالى وانكسارٍ بين يديه وضراعةٍ وسؤالٍ ودعاء قال صلى الله
عليه وسلم ( العبادة في الهرج كالهجرة إلي) رواه مسلم ،فينصرف الناس عن العبادة إلى انشغالٍ بقيلٍ
وقالٍ وهَرجٍ ومَرجٍ وعُدوانٍ وبغيٍ وظلمٍ وغير ذلك من الأمورِ والعواقبِ
الوخيمة .
ومن
عواقبِ الفتنِ الوخيمةِ -أيها المؤمنون-: أنها تصرِفُ الناسَ عن أهلِ العلمِ
الراسخين والأئمةِ المحققين، بل وتصرِفُهم عن البصيرةِ في دينِ الله والفقهِ في
شريعةِ الله ومعرفةِ أحكامِ الله وحدودِهِ سبحانه، بل وإنها تُفضي بكثيرٍ من الناس
إلى انتقاصِ العلماءِ واحتقارِهم وازدِرائِهم ، من الأمثلةِ على ذلك ما حصل في زمن
التابعين: دخل نفرٌ على الحسنِ البصري -رحمه الله- وقالوا: ما تقولُ في هذا
الطاغية –يعنون الحجاج- الذي سفكَ الدمَ
الحرام وأخذَ المال وفعَل وفعَل ؟ وذكروا له شيئاً من أفعال الحجاج ، فقال الحسن:
" أرى أن لا تقاتِلُوه فإنها إن تك عقوبةً من الله - أي تسليطُ الحجاج - فما
أنتم برادِي عقوبة اللهِ بأسيافكم ، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكمُ الله وهو خيرُ
الحاكمين " انتهت وصيته -رحمه الله- إلا أنهم لم يستجيبوا لهذه الوصية وخرجوا
من عنده وهم يقولون: " نطيع هذا العِلج !! " ازدراءً وانتقاصًا
واحتِقارًا لمقام هذا الإمام العلَم والفقيهِ المحقق، ثم إنهم خرجوا؛ خرجوا
وقُتلوا أجمعين في تلك الفتنة ولم يقدّموا لا لأنفسهم ولا لأمتهم خيراً.
ومن
عواقب الفتن - أيها المؤمنون-: أنها تصدّرُ السفهاء ومن لا علمَ عنده ومن لا فقهَ
لديه فيصبحُ بيده زمامَ أمرٍ يوجّهُ ويرشد ويدعو إلى غير ذلكم من الأمور كما هو
حاصل في بعض وسائل الاعلام في زماننا فكلٌّ يتكلم
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " والفتنةُ إذا وقعت عجِز
العقلاء فيها عن دفعِ السفهاء".
أيها
المؤمنون ومن عواقب الفتن: أن من يدخلها يتورطُ فيها ويبوء بالعواقب المردية
والمآلات السيئة من قتلٍ وحبسٍ وهربٍ وخرابٍ ودمار، فانظروا مثلا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا
تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن
القتل" متفق عليه فكل من سن في الاسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها
الى يوم القيامة .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليماً كثيراً، أما
بعد:
أيها
المؤمنون ومن عواقب الفتنِ الوخِيمة: اشتباهُ الأمورِ واختلاطُها على كثيرٍ من
الناس؛ فلا يَميزُ فيها كثيرٌ من الناس بين حقٍ وباطل ولا يفرّقون بين هدىً وضلال
فيُقتل الرجلُ في الفتنة ولا يدري فيمَ قُتل؟ ويقتل القاتلُ أخاه ولا يدري فيمَ
قتله. وقد جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَنْ قَاتَلَ
تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ
يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ)) .
وقد
ضرب الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة؛
ضرب مثلاً عجيباً بديعاً يصوِّرُ حالَ الناسِ في الفتن فقال رحمه الله: "إن
حال الناسِ في الفتن كحالِ جماعةٍ خرجوا في صحراء فعجّت ريحٌ وثارت عجاجا فلم يصبح
الناس بسببِ العجاج والغبار يبصرون
طريقهم؛ فقومٌ منهم أخذوا ذات اليمينِ فضاعوا وتاهوا، وقومٌ آخرون أخذوا ذاتِ
الشمالِ وضاعوا وتاهوا، وقومٌ قالوا نبقى في مكانِنِا الذي كنا عليه وأمْرنِا الذي
كنا عليه حتى ينقشعَ العجاجُ ويزولَ الغُبارُ فنسير فسلِموا ". وهذا فيه أن
القاعد في الفتنة هو السالم ، وأن السعيد -كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام- من
جُنِّب الفتن.
أيها
المؤمنون ومن عواقب الفتنِ الوخيمة: الجُرأَةُ على القتلِ وسفكِ الدماء؛ تُقتل
الروحُ المسلمة، وتُزهق النفسُ المؤمنة ولا كأن الأمرَ شيئا!! ، فقد جاء في سنن
الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى
اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ))؛.كما هو الحاصل في الفتن المعاصرة فأصبح
قتل المسلم كأن شيئا لم يحصل مع ما فيها من الوعيد بل أدهى من ذلك أنهم يسمون قاتل
نفسه شهيد !!
أيها
المؤمنون ومن عواقبِ الفتنِ الوخيمة: اختلالُ الأمن وكثرةُ القلاقل؛ فتُراقُ
الدماء وتُزهقُ الأرواح وتُنتهبُ الأموال وتُنتهكُ الأعراض وتُدمرُ الممتلكات إلى
غيرِ ذلك من الأمورِ السيئات، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ)).
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ
بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما
بطن، إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى
والفقر، ونسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر في وجهك،
وشوقا إلى لقائك، من غير ضراء مضرة، أو فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا
من الهداة المهتدين. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نسألك الثبات
في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، ونسألك شكر نعمتك ، وحسن عبادتك ، ونسألك قلوبا سليمة
، وألسنة صادقة ، ونسألك من خير ما تعلم ، ونعوذ بك من شر ما تعلم ، ونستغفرك لما تعلم
، إنك أنت علام الغيوب .اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته ، ولا همّا إلا فرّجته ، ولا
كربا لا نفَّسته ، ولا ضرّا إلا كشفته ، ولا ديْنا إلا قضيته ، ولا عدوا إلا أهلكته
، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أعلنّا وما أسررنا وما أنت أعلمُ
به منا أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيءٍ قدير، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت،
أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا،
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع
به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد يا ذا الجلال والإكرام .اللهم صلّ وسلم على
نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |