من ثمار ذكرى الدار
إن
الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا
وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ
أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ،
صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً أما
بعد:
عباد الله:
اتقوا
الله تعالى حقّ التقوى واعلموا أن هناك ثَمّة وصية عظمى لنيل عطية من الله كبرى ،
وصية هي مفتاح الخير كلِّه ، وهي سائق الفضل أجمعِه وهي منّة كريمة ، وهبة من الله
حميدة؛ نحتاجها لصلاح ديننا ودنيانا، ونحتاجها لتحيى قلوبنا، وتعلو هممنا، وتقوى
عزائمنا، ونحتاجها لجمع شملنا ، واستقامة أحوالنا .
ألا وهي
:همُّ الآخرة!! نعم همُّ الآخرة .
همٌّ رَبَّى عليه النَّبي صلى الله عليه وسلم صحابتَهُ الكِرام، فكان - عليه
الصلاة والسلام - يغرس في قُلُوب أصحابه هذا الهمِّ، كان إذا رأى شيئًا مِن زينة
الدُّنيا يُسْمِع أصحابه: (لبيكَ إنَّ العيشَ عيش الآخرة)..
= أيها
المؤمنون : نبينا صلى الله عليه وسلم نصح لنا ورغّب ورهّب بحديثٍ مختصر العبارة ،
عميق الفائدة والعائدة ، حديثٍ يُتَرْجم لنا حقيقة الهمِّ ، وعاقبة كل مهموم..
فعن زيد بن
ثابت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن كانتِ الآخرةُ
هَمَّه، جَمَع الله له شَمْله، وَجَعَلَ غناهُ في قَلْبه، وَأَتَتْه الدُّنيا وهي
راغِمة ؛ ومَن كانتِ الدُّنيا هَمَّه، فَرَّقَ الله عليه شَمْله، وجعل فقره بين
عَيْنَيْه، ولم يأتِه منَ الدُّنيا إلاَّ ما قدر له)). رواه الإمام أحمد والترمذي
وهو حديث صحيح.
فقد جَعَلَ
الله لصاحب الهمّ الأخروي ثلاث مِنَح ؛ يَتَفَيَّأ ظلالها، وينعم بها:
الأولى: أن
يجمعَ الله له شمله، وجَمْعُ الشَّمل: هو الاجتماع بكل ما يعنيه من عموم، يجمع
الله على صاحب الهم الأخروي: قلبَه،
وفكره، ومقصده، وأهله، وولده، وقريبه،وصديقه، وماله، وتجارته، ويجمع الله عليه
القلوب، ويكتب له القَبول، فيجتمع لهذا العبد كل ما يحيط به مِن أمور الخير
جميعًا..
والنِّعمة
الثانية التي يُنَعَّم بها صاحب الهَمِّ الأُخروي: أن يجعلَ الله غناهُ في قلبه،
وغنى النَّفس هو الغِنَى الحقيقي؛ وذلك بأن يَرْضَى العبد بما قسم الله له ؛ وفي
الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (وارْضَ بما قسم الله لك، تَكُن أغنى الناس)؛ رواه
الإمام أحمد، وهو حديث حسن.
وثالث نعمة
يُلقَّاها صاحبُ الهمِّ الأخروي: هي مَجِيء الدُّنيا له، وهي راغمة، فَيَأْتيه رِزْقه
مِن حيث لا يحتسب، ويجعل له ربُّه مِن كل أمر يسرًا، فيُوَفَّق في دنياه، من غير
مسألة ولا إشراف نفس..
ولا تحسبنّ
صاحب الهَمِّ الأخروي لا تعتريه هُمُوم في دنياه، من همِّ عمل، أو مسكن، أو
زواج،أو ولد، أو غيرها، فلا يخلو منها أحد ، غير أنه يراها هموم صغيرة ، تضمحل
أمام همّه الأكبر، ومقصده الأعظم..
فها هو
صاحب الهم الأخروي قد كافأه ربُّه بنظير قصده، فلمَّا جَرَّد همّه للآخرة، كَفَاهُ
الله همَّ دنياه، وهل جزاء الإحسان إلاَّ الإحسان.
إخوة
الإيمان:
وأمَّا صاحبُ
همِّ الدنيا، فهو ذاك المَغْرُور، الذي ملكتْ عليه العاجِلة شغاف قلبه،
فَلِأَجْلِها يرضى ويسخط، ويُوالِي ويُعادِي، يَتَهَلَّل إذا ذُكِرَتْ، ويَشْمَئِز
إذا ذُمَّت، فبشاشته وهشاشته، وعتابه وملامته لأجل الدُّنيا وللدنيا..
صاحب هذا
الهمّ والحال يُعَاقَب في العاجِلة قبل الآجلة بأمورٍ ثلاثة ، كما قال صلى الله
عليه وسلم: (ومَن كانتِ الدُّنيا هَمَّه: فَرَّقَ الله عليه شَمْله، وجعل فقره بين
عَيْنَيْه، ولم يأتِه منَ الدُّنيا إلاَّ ما قدر له):
أولاها: أن
يُشَتِّتَ اللهُ عليه شمله، فتراه وإن حصَّل الثَّراء، أو بلغ المنصب والأضواء،
مشتّتَ البال، مضطرب النفس، كثير القَلَق، لا بركة فيما لِه وَلا ولَدِه، القلوبُ
لا تجتمع عليه، والقَبُول لا يُكْتَبُ له.
وعقوبةٌ ثانيةٌ
تحل على مَن جعل دنياه همّه: أن يجعلَ الله فقره بين عينيه،فهو وإن كان غنيًّا، لا
يعيش حياة القناعة أبدًا، فمهما حَصَّل وكسب وكنز، يرى خطر الفقر ماثِلاً أمامَه،
ويخيّم على خاطره هاجِس المستقبل والحاجة، يزداد حِرْصُه وبُخله كلما زاد ثراؤُه
وماله..
وأمْرٌ
ثالثٌ يُلاقِيه صاحب هذا الهمّ : أنَّه لا يأتيه مِن دنياه إلاَّ ما قدر له، فهو
وإن تعنَّى وكدح، وكد ومدح، فلن يستعجلَ أو يزيدَ في رزق الله له.
أصحاب هذا
الهمّ الدنيوي استعاذَ مِن حالِهم خيرُ البشر صلى الله عليه وسلم فكان يقول في
دعائه: (اللهُمَّ لا تَجْعلِ الدنيا أكبر همّنا، ولا مبلغ علمنا)..
= إخوة
الإيمان:
حَمْلُ
همِّ الآخرة لا يعني انعزال العبد عن حياة الناس،فيترك إجابة الدَّعوة، ويهجر
زيارة الصديق والقريب. وحَمْل همِّ الآخرة، لا يعني أن يكونَ صاحبه مكفهر الوجه،
دائم العبوس؛ فهذا قُدوتنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم أعظم مَن همَّ لآخرته، كان
يصل الرحم ويخالط الناس ، ويضاحِك ويُمازِح، ويُداعِب ويُلاعِب - لأنَّه يعلم أنَّ
تلك الأعمال هي درجات وحسنات في ميزانه يوم الآخرة..ولكن يسعى ويجاهد نفسه في
احتساب الأجر
فاللهم
إنا نسألك عيشة نقية وميتة سوية ومرداً غير مخزي ولا فاضح واجعلنا من أولي الأيدي
والأبصار؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو
الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ،
وأَشْهدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهَ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحمَّداً
عَبدُ اللهِ ورَسولُهُ ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وسلَّمَ تَسلِيمًا كَثِيرًا. أما بعد
:
عباد الله:
تلكم – يا عباد الله – هي الخالصة ! أتدرون ما الخالصة ؟ إنها الخصلة التي أخلصها
ووهبها لأحب خلقه إليه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام، قال الله
تبارك وتعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي
الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ، إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ،
وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾، فنزع الله تعالى من
قلوبهم حب الدنيا وذكرها، وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها وأن يتأهبوا لها ويرغبوا
إليها ويرغِّبوا الناس فيها .
= يا عبد الله: إذا رزقك الله هذه الخالصة وهي ذكرى الآخرة بأن تكون الآخرة قد سيطرت على القلب
وهي بين العينين دائما، فإن الله إذا رزقك هذه الخالصة فقد رزقك الخير كله .
إذا أخلصك
الله ووهبك هذه الخالصة أتاك الخير كله، تنعمت بعباداتك وخشعت لله في صلواتك.
= أيها
المؤمن: إذا أخلصك الله بهذه الخالصة فتح لك في القرآن ورفع عنك الحُجب وتنعمت
بتلاوة كتاب الله وتفهمت وعملت ، قال الله: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ
جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا
مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي
آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾..
= أَيُّهَا
المُسلِمُون، إن تذكّر الآخرة ، واليقين بأحداثها بداية بالموت والقبر والحشر
والعرض على الله ، ونهاية بالجنة أو النار : لأمر ينبغي للمسلم أن يجعله دائماً
نصب عينيه ، وأن لا يغفل عنه ، لأن الغفلة عن الآخرة ونسيانها: طريق الهلاك ،
وسبب الانحراف.. فَوَ اللهِ لَو جَعَلَ كُلُّ مُسلِمٍ ذِكرَ الآخِرَةِ على بَالِهِ
وَهُوَ يَتَقَلَّبُ في هَذِهِ الحَيَاةِ لمَا زَلَّت عَنِ الصِّرَاطِ قَدَمٌ، وَلمَا
امتَدَّتْ إِلى مَا عِندَ الآخَرِينَ عَينٌ، وَلمَا بَطَشَت في ظُلمٍ يَدٌ، ولا
سَارَت إلى عُدوَانٍ رِجلٌ..
فسلوا ربكم
أن يرزقكم ذكرى الدار ، سلوه من قلوبكم هذه الخالصة ، فإنها إذا كانت في قلوبكم
أفلحتم وفزتم وربِّ الكعبة ..
اللهُمَّ
لا تَجْعلِ الدنيا أكبر همّنا، ولا مبلغ علمنا يا أرحم الراحمين.
=
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا وتتوب
علينا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين
واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تشمت بنا أعداء و لا حاسدين
، اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه بيدك ، ونعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك .
=
اللهم آمن روعات المسلمين أينما كانوا واستر عوراتهم يا حي يا قيوم ، واحفظهم بما
تحفظ به عبادك الصالحين ، وجنِّبهم يا رب العالمين الفتن ما ظهر منها وما بطن.
=
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى وألّف بين قلوبهم ووحد صفوفهم وارزقهم
العمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
=
اللهم انتصر لعبادك المستضعفين في كل مكان، اللهم احقن دمائهم وصن أعراضهم وتولّ
أمرهم وسدد رميهم وعجّل بنصرهم وفرّج كربهم وانصرهم على القوم الظالمين، اللهم
عليك بأعداء الدين من الكفرة المجرمين والطغاة الملحدين الذين قتلوا العباد وسعوا
في الأرض بالتخريب والتقتيل وأنواع الفساد اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك يا رب
العالمين، اللهم شتت شملهم وفرق جمعهم واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم وأنزل بهم بأسك
الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم أصلح أحوالنا ونياتنا
وذرياتنا واختم بالصالحات أعمالنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. ربنا آتنا في الدنيا
حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين .
وللمزيد
من الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|