خطبة: فضائل لا إله إلا الله
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فلا مضلّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، وأمينُه على وحيِه، ومبلِّغُ الناسِ شرعَه، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
معاشر المؤمنين –عباد الله- اتقوا الله –تعالى-، وراقبوه مراقبةَ مَن يعلم أنّ ربَّه يسمعُه ويراه.
عباد الله.. إن أعظمَ الكلمات على الإطلاقِ، وأجلَّها، وأرفعَها شأنًا، وأعلاها مكانةً، كلمةُ التوحيدِ لا إله إلا اللهُ، تلك الكلمةُ العظيمةُ التي لأجلِها قامت السماواتُ والأرضُ، ولأجلِها خُلِقت المخلوقاتُ، لأجلِها أُنزِلتْ كتُبُ الله -جلَّ وعلا-، ولأجلِها أُرسِلتْ الرسلُ، ولأجلِها خُلِقتْ الجنَّةُ، فمَن كان من أهل لا إله إلا اللهُ كان من أهل الجنّةِ، ومَن نكَصَ عنها كان من أهل النار.
عباد الله.. إنها كلمةٌ عظيمةٌ، لها فضائلُ عظيمةٌ، ومزايا جمَّةٌ لا يمكن عدُّها، وليس من السهل حصرُها واستقصاؤها.
فمِن فضائلِ هذه الكلمةِ العظيمةِ –عباد الله-: أنَّ اللهَ -عز وجل- نعتَها في القرآنِ بنعُوتٍ عظيمةٍ تدلُّ على عِظَمِ شأنِها، وجلالةِ أمرِها، ومن ذلكم –عباد الله-: أنَّ الله -عز وجل- وصَفها بالكلمةِ الطيّبة في قوله -جلَّ وعلا-: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} (إبراهيم:24)، ووصَفها بالقولِ الثابتِ في قوله –تعالى-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ} (إبراهيم:27)، ووصَفها -جلَّ وعلا- بكلمةِ التقوى في قوله -جلَّ وعلا-: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} (الفتح:26)، ووصفها -جلَّ وعلا- بدعوة الحقِّ في قوله –سبحانه-: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} (الرعد:14) ، ووصَفها -جلَّ وعلا- بالعُروةِ الوُثقى وذلك في قوله –سبحانه-: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} (البقرة:256)، إلى غير ذلكم من الصفاتِ العظيمةِ، والمزايا الكريمةِ، والنُّعوتِ المباركةِ التي نُعِتتْ بها هذه الكلمةِ، كلمةِ التوحيدِ لا إله إلا اللهُ.
وهي –عباد الله- أولُ كلمةٍ تَقْرعُ سمْعَ الأقوام من أنبيائهم، فأولُّ ما يبدأ الأنبياءُ أقوامَهم، يبدؤونهم بهذه الكلمةِ العظيمةِ، فهي زُبْدةُ دعوةِ النبيّين، وخُلاصةُ رسالتِهم، وهي –عباد الله- أجلُّ نِعَمِ الله على عباده، وأفضلُ مِنَنه، ولِهذا بدأ بها –سبحانه- في سورةِ النحل المعروفةِ بسورةِ النِعَم، قال الله –تعالى-: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل:1و2).
وهي الكلمةُ –عباد الله- التي جعلها إبراهيم -عليه السلام- باقيةً في عَقِبه، كما قال الله -عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الزخرف:26-28).
عباد الله.. ولقد جاء في السُّنّةِ النبوية أحاديثُ كثيرةٌ عن نبيِّنا عليه الصلاة والسلام في بيانِ فضلِ هذه الكلمةِ، وعِظَمِ شأنِها مِمَّا يَضيقُ المقام بذكرها وعدِّها.
فمِن ذلكم –عباد الله-: أنَّ نبينا عليه الصلاة والسلام عدَّها أفضلَ الذكرِ وأعلا شأنها، كما في الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((أفضلُ الذكرِ: لا إله إلا اللهُ))، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنَّ هذه الكلمة هي خيرُ كلمةٍ قالها نبيٌّ، كما جاء في الترمذي وغيره عنه صلواتُ الله وسلامُه عليه أنّه قال: ((خيرُ الدعاءِ دعاء يوم عرَفة، وخير ما قلتُه أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا اللهُ، وحده لا شريك له، له المُلْكُ، وله الحمْدُ، وهو على كل شيءٍ قديرٍ)).
ومن فضائلها في السُّنّة –عباد الله-: أنّ نبيّنا عليه الصلاة والسلام أخبر أنّها لو وُضِعتْ في كِفّةٍ، والسماواتُ السبعُ والأرَضونَ السبعُ في كِفّةٍ، لمَالتْ بهنّ لا إله إلا اللهُ، ففي "المُسندِ" بإسنادٍ ثابتٍ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((أنَّ نوحًا عليه السلام قال لابنه: يا بُنيّ.. آمُركَ بلا إله إلا الله، فإنها إن وُضعتْ في كِفّةٍ، والسماواتُ السبعُ والأرَضون السبعُ في كِفّةٍ، لمالت بهنَّ لا إله إلا الله، ولو كانت السماواتُ السبعُ والأرَضون السبعُ حَلْقةً مُفرَغةً لقصَمتْهُنَّ لا إله إلا الله))، وأخبر عليه الصلاة والسلام كما في "المُسْند" وغيره بِثَقَلِ لا إله إلا اللهُ في الميزان، ففي الحديثِ عنه صلواتُ الله وسلامُه عليه أنّه قال: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَخْلِصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاًّ ، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا ؟ أَظَلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ ؟ قَالَ : لاَ ، يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ ، أَوْ حَسَنَةٌ ؟ فَيُبْهَتُ الرَّجُلُ ، فَيَقُولُ : لاَ ، يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : بَلَى ، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَاحِدَةً ، لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ ، فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ ، فِيهَا : أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، فَيَقُولُ : أَحْضِرُوهُ ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ، مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ ؟ فَيُقَالُ : إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ ، قَالَ : فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ ، قَالَ : فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ ، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ ، وَلاَ يَثْقُلُ شَيْءٌ مَعَ اسْمِ اللهِ شَيْءٌ)).
عباد الله.. إنَّ الواجبَ علينا أُمَّةَ الإسلام أنَّ نعرِفَ لهذه النِّعمةِ قدرَها ومكانتَها، أنْ عرَّفَنا ربُّنا –جلَّ وعلا- بلا إله إلا اللهُ، قال سفيانُ بنُ عُيينةَ –رحمه الله-: "ما أَنعمَ اللهُ على عبْدٍ من عبادِه نِعمةً أعظمَ من أنْ عرَّفَه بلا إله إلا اللهُ".
فللّهِ الحمدُ أولاً وآخرًا، وله الشكرُ ظاهرًا وباطنًا أنْ عرَّفَنا لا إله إلا اللهُ، وأنْ جعلَنا من أهلها، اللهمَّ أحينا من أهل لا إله إلا اللهُ، وتوفّنا على هذه الكلمةِ، واجعلها آخرَ كلمةٍ نقولها في هذه الحياةِ، أقولُ هذا القول، واستغفر اللهَ لي ولكم، ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله عظيمِ الإحسانِ، واسعِ الفضلِ والجودِ والامتنانِ، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى اللهُ وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
عباد الله.. اتقوا الله -تعالى-، واعلموا –رعاكم الله- أنّ هذه الكلمةَ العظيمةَ ليست بنافعةٍ لقائِلها ما لم يُحقِّق ضوابطَها المعلومةَ في كتاب اللهِ -عز وجل- وسُنَّةِ نبيّهِ صلواتُ الله وسلامُه عليه، قيل لوَهْبٍ –رحمه الله تعالى-: "أَليستْ لا إله إلا اللهُ مفتاحُ الجنةِ؟ قال: بلى، ولكنْ ما مِن مفتاحٍ إلا وله أسنان، فإذا جئتَ بمفتاحٍ له أسنان فُتِحَ لك، وإلا لم يُفتَح"، يشيرُ بذلك إلى أهميةِ شروطِ لا إله إلا اللهُ، وعِظَمِ مكانةِ ضابِطِها وقيودِها المعلومةِ في كتاب اللهِ وسُنّةِ نبيّه صلواتُ الله وسلامُه عليه، وهي –عباد الله-: العلمُ بمعناها المنافي للجهلِ، كما قال اللهُ –تعالى-: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (محمد:19)، واليقينُ بها المُنافي للشَكِّ، كما قال اللهُ –سبحانه-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات:15)، أي: أيقَنوا ولمْ يشكُّوا، مع الإخلاصِ –عباد الله- كما قال اللهُ -جلَّ وعلا-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البيّنة:5)، وأنْ يكونَ قائلُها صادِقًا يقولُها بقلبِه ولسانِه، فيُواطيءُ القلبُ اللسانَ، ولهذا قال الله -عز وجل- في ذمِّ المنافقين: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (المنافقون:1)، أي: أنَّ ما قالوه بألسنتهم ليس قائمًا ولا ثابتًا في قلوبِهم.
ولا بُدَّ –عباد الله- من محبةِ اللهِ، ومحبةِ هذه الكلمة، ومحبةِ ما يحبُّه الله -عز وجل-، وتقديمُ محبتِه -جلَّ وعلا- على كلِّ المحابِّ، قال الله –تعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (البقرة:165)، ولا بُدَّ –عباد الله- من القَبول لهذه الكلمةِ خلافًا لِمَن قال اللهُ عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (الصافات:35و36).
ولا بُدَّ –عباد الله- من الانقيادِ لأوامرِ الله، والاستسلامِ لشرعِ الله، فبذلكم –عباد الله- يكون قائلُ لا إله إلا اللهُ من أهلها حقًا وصِدقًا، وقد قال أهلُ العلمِ –رحمهم الله –تعالى-: لا بُدَّ في لا إله إلا اللهُ من أمورٍِ ثلاثةٍ: العلمُ والعملُ والصدقُ، فبالعلمِ ينجو من طريقةِ النصارى الذين يعملون ولا يعلمون، وبالعملِ ينجو من طريقةِ اليهود الذين يعلمون ولا يعملون، وبالصدقِ ينجو من طريقةِ المنافقين الذين يُظهِرون ما لا يُبطِنون".
وإنَّا لنسألُ اللهَ -عز وجل- أنْ يجعلنا أجمعين من أهلِ لا إله إلا اللهُ حقًّا وصدقًا، إنَّه -جلَّ وعلا- سميعُ الدعاءِ، وأهلُ الرجاءِ، وهو حسبُنا ونِعمَ الوكيلِ.
وصلُّوا وسلِّموا –رحمكم الله- على محمدِ بن عبدِ الله كما أمركم الله في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب:56)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن صلّى عليَّ واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا))، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمّ عن الخلفاءِ الراشدين، وعن الصحابةِ أجمعين، اللهمَّ وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، اللهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلح أئمتَنا وولاة أمورِنا، اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرنا لِهُداك، واجعل عملَه في رضاك، اللهمّ آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خير مَن زكّاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهمَّ وأصلح لنا شأنَنا كلَّه، ربَّنا إنَّا ظلمنا أنفسَنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا؛ لنكوننَّ من الخاسرين، ربنَّا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النار.
عباد الله.. اذكروا الله يذْكرْكُم، واشكروه على نعمِه يزدْكم، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت: 45).
خطبة: فضائل سبحان الله
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
معاشر المؤمنين –عباد الله- اتقوا الله تعالى، فإن مَن اتقى اللهَ وقاه، وأرشَدَه إلى خيرِ أمور دينه ودنياه، وتقوى الله -جلَّ وعلا-: عملٌ بطاعة اللهِ على نورٍ مِن الله؛ رجاءَ ثوابِ اللهِ، وترْكٌ لمعصيةِ الله على نورٍ مِن الله؛ خيفةَ عذابِ الله.
أيها المؤمنون –عباد الله-.. عبادةٌ جليلٌ شأنُها، عظيمٌ قدرُها، حبيبةٌ إلى الربِّ –جلَّ شأنُه-، يسيرةٌ على الإنسان، ثوابُها عند الله -جلَّ وعلا- عظيمٌ، وهي ثقيلةٌ في الميزانِ يومَ القيامة، ألاَ وهي تسبيحُ اللهِ -جلَّ وعلا-.
فالتسبيحُ –عباد الله- عبادةٌ جليلةٌ، وطاعةٌ عظيمةٌ، وردَ في فضلهِ نصوصٌ مُتكاثِرة، وأدلةٌ مُتضافِرةٌ، وهو إحدى الكلمات الأربع التي هي أحبُّ الكلام إلى الله -جلَّ وعلا-، ففي "صحيح مسلم" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أحبُّ الكلامِ إلى اللهِ أربعٌ: سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ))، ولقد تكرر ورودُ التسبيحِ في القرآن تكرّرًا كثيرًا يزيد على الثمانين مرة بصيَغٍ متعددةٍ ومقاماتٍ متنوعةٍ، مِمَّا يدلُّ على مكانةِ التسبيحِ العليّةِ ومنزلتِه الشريفةِ.
والتسبيحُ –عباد الله- عبادةٌ خفيفةٌ على اللسانِ، لكنّها في الميزانِ ثقيلةٌ، يقول عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين وغيرهما- من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)).
أيها المؤمنون.. والتسبيحُ عبوديةُ الكائنات بأَسْرِها، فالكائنات كلها تُسبِّحُ الله -جلَّ وعلا-، السماوات تُسبِّح الله، والأرضُ تُسبِّحُ الله، والجبال تُسبِّحُ الله، والطيرُ والحيواناتُ تُسبِّحُ الله، وجميعُ الكائنات تُسبِّحُ الله، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} (النور:41) ، ويقول -جلَّ وعلا-: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (الإسراء:44)، ولقد جاءَ في "صحيح البخاري": "أنَّ الصحابةَ –رضي الله عنهم- سمعوا تسبيحَ الطعامِ في يدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكله"، وجاء في "المعجم للطبراني" بسند ثابت من حديث أبي ذرٍّ قال: ((إني لشاهد عند النبي صلى الله عليه وسلم في حلقة وفي يده حصى فسبحن في يده وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فسمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبى بكر فسبحن مع أبي بكر سمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسبحن في يده، ثم دفعهن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر فسبحن في يده وسمع تسبيحهن من في الحلقة، ثم دفعهن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان فسبحن في يده))، فالكائناتُ كلُّها –عباد الله- تسبِّح بحمد الله -جلَّ وعلا-.
والتسبيحُ -معاشر المؤمنين- عبادةُ أهل الجنةِ، فأهلُ الجنةِ -نسأل الله عز وجل بأن يكرمنا بأن نكون لها من الداخلين- ،فأهلُ الجنةِ –عباد الله- يُلْهَمون في الجنة التسبيح كما يُلْهَم الإنسانُ النفَسَ، فيتكرر التسبيح على ألسنتهم، ويكون عليهم عملاً لا مشقةَ فيه ولا كُلْفةَ، بل إنهم يتلذَّذُون به تلذُّذًًا أعظم من تلذُّذِهم بالطعام والشراب، يقول اللهُ –تبارك وتعالى-: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (يونس:10).
معاشر المؤمنين.. والتسبيحُ عبادةٌ جليلةٌ، بل إنه يُعَدُّ أصلاً عظيمًا وأساسًا متينًا تنبني عليه معرفةُ العبدِ لربِّه -جلَّ وعلا-، فإن من الأُسس العظيمة التي تُبنى عليها معرفةُ الله: تنزيهُ الربِّ -جلَّ وعلا- وتقديسُه عن كلِّ ما لا يليق به، وعن النقائص، وعن مُشابهة المخلوقات، وفي هذا يقول -جلَّ وعلا: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الصافات:180-182) .
ومِن أسماءِ ربِّنا – جلَّ وعلا-: السُبُّوح: أي المُنزَّه المُقدّسِ عن النقائص والعيوب. وقد كان نبيُّنا صلواتُ الله وسلامُه عليه يقول في ركوعه وسجوده: ((سُبُّوحٌ قدُّوسٌ ربُّ الملائكةِ والروح))، ويقول في ركوعه: ((سبحان ربي العظيم))، وفي سجوده: ((سبحان ربي الأعلى))، ويقول فيهما: ((سبحانك اللهمَّ وبحمدك، اللهمَّ اغفر لي)).
عباد الله.. وفي التسبيحِ والإكثارِ منه نجاةٌ من الشدائدِ والأهوالِ والكُرُباتِ، {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (الصافات: 143و144)، يقول صلى الله عليه وسلم: ((دعوةُ ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ما دعا بها مكروبٌ إلا فرَّج الله عنه كربه)).
وفي الإكثار من ذكرِ اللهِ وتسبيحهِ –عباد الله- يفوزُ العبدُ بصلاةِ الربِّ عليه، وصلاةِ الملائكة، يقول الله -جلَّ وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (الأحزاب:41-43).
عباد الله.. ولقد جاء في السُّنّة النبوية أحاديثُ عديدةٌ تدل على مكانةِ التسبيحِ العظيمةِ، ومنزلتِه الجليلةِ، ففي "صحيح مسلم" من حديث أبي ذرٍّ –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل: ((أيُّ الكلام أحبُّ إلى الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((ما اصطفى اللهُ لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده))، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرّة حُطَّت عنه خطاياه، ولو كانت مثل زَبَدِ البحر))، وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن قال حين يُصبح وحين يُمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرّة، لم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضلَ مما جاء به، إلا أحدٌ قال مثل ما قال، أو زاد عليه))، وفي الترمذي عن جابر –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن قال: سبحان الله وبحمده غُرِستْ له نخلةٌ في الجنة))، وفي "صحيح مسلم" عن سعد بن وقاص –رضي الله عنه- قال: "كنا جلوسًا عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيعجَزُ أحدُكم أن يكسبَ في اليوم ألف حسنة؟! فقال له بعضُ جلسائه: وكيف يكسب أحدُنا في اليوم ألف حسنة؟! فقال عليه الصلاة والسلام: ((يُسبِّحُ مائة تسبيحة، فيُكتب له ألف حسنة، أو يُحطُ عنه ألف خطيئة)).
والتسبيحُ –عباد الله- كفارةٌ للمجلس وطابعٌ له بالخير، فمَن جلَس مجلسًا كثُر فيه لَغطُه فسبَّح اللهَ -جلَّ وعلا- وحمَِده، قام من مجلسه وقد كُفِّر عنه ما كان في مجلسه، ففي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن جلَس مجلسًا كثُر فيه لَغطُه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك، إلا غُفِر له ما كان في مجلسه ذلك)).
وفضائلُ التسبيحِ –عباد الله- كثيرة، وفوائدُه عديدةٌ لا تُعدُّ ولا تُحصى، فلْنُكثِر –عباد الله- من التسبيح بحمد الله، ولنُكثِر من الثناء على الله -جلَّ وعلا-.
وإنا لنسأل اللهَ –عزَّ وجلَّ- ونرجوه أن يجعلنا من عباده المسبِّحين، من عباده الذاكرين، من عباده الشاكرين، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى اللهُ وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
معاشر المؤمنين –عباد الله-.. اتقوا الله -تعالى-، وراقبوه مراقبةَ مَن يعلم أن ربَّه يسمعه ويراه.
واعلموا –رعاكم الله- أنّ أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرُ الهدى هدى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثَاتُها، وكلَّ مُحدَثَةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بالجماعة فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ.
واعلموا –رعاكم الله- أنَّ الكيّسَ من عبادِ الله مَن دانَ نفسَه وعمِل لما بعد الموت، والعاجزَ مَن اتْبع نفسَه هواها، وتمنّى على الله الأماني.
وصلِّوا وسَلِّموا –رعاكم الله- على محمدٍ بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب:56)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن صلّى عليَّ واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا))، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمّ عن الخلفاءِ الراشدين، الأئمةِ المهديين، أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارضَ اللهمّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمِ حوزةَ الدين يا رب العالمين، اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاةِ أمورنا، واجعل ولايتنا فيمَن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ربَّ العالمين، اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرنا لهداك، واجعل عملَه في رضاك، اللهمَّ وأعنْه على طاعتك يا حيُّ يا قيوم، اللهمَّ وفِّق جميع ولاةِ أمر المسلمين للعملِ بكتابِك، وتحكيمِ شرعِك، واتّباع سُنّةِ نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمةً على عبادِك المؤمنين، اللهمّ آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خير مَن زكّاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهمّ أعنّا ولا تُعنْ علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكُر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على مَن بغى علينا، اللهمّ اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، إليك أوّاهين منيبين، لك مُخبتين، لك مُطيعين، اللهمّ تقبّل توبتَنا، واغسل حوبتَنا، وثبّت حُجّتَنا، واهدِ قلوبَنا، وسدِّد ألسنتَنا، واسلُلْ سخيمةَ صدورِنا، اللهم وأصلح ذاتَ بيننا، وألِّف بين قلوبنا، واهدنا سبُل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذريّاتنا وأموالنا وأوقاتنا، اللهمَّ واجعلنا مباركين أينما كنَّا، اللهمَّ أعنَّا على ذكرك وشكرك وحسْنِ عبادتك، اللهمَّ اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياءِ منهم والأمواتِ، ربَّنا إنَّا ظلمنا أنفسنا وإنْ لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربّنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار.
عباد الله.. اذكروا الله يذْكرْكم، واشكروه على نعمه يَزدْكم، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت: 45).
خطبة: فضائل الحمد لله
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
معاشر المؤمنين –عباد الله- اتقوا الله –تعالى وراقبوه مراقبةَ مَن يعلم أنّ ربَّه يسمعُه ويراه.
ثم اعلموا –رعاكم الله- أنَّ حمْد الله –جلَّ وعلا- هو أعظمُ الدعاء، وهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى ربِّ الأرض والسماء.
والحمدُ –عباد الله- فضائلُه كثيرةٌ لا تُحصى، وثمارُه وآثارُه على الحمَّادين لا تُعَدُّ ولا تُستقصَى، وثوابُه عند الله –جلَّ وعلا- جزيل، فإن الله –عزّ وجلّ- حميدٌ يحِبُّ الحمدَ –جلّ ثناؤه-.
عباد الله.. وبالحمد افتتح اللهُ –جلّ وعلا- كتابَه، وسورةُ الحمْدِ أفضلُ سورةٍ في القرآن، وافتتح بالحمد –جلَّ ثناؤه- بعضَ سورِ القرآن، وذكرَ –جلَّ ثناؤه- الحمدَ في أكثر من أربعين موضعًا في القرآن، وافتتح –جلَّ وعلا- خلقَه بالحمد، فقال -جلَّ ثناؤه-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام:1) ، واختتم –جلَّ ثناؤه- خلقَه بالحمد، فقال –جلَّ ثناؤه- بعد أن ذكر مآل أهل الجنة، ومآل أهل النار: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الزمر:75) ، وحمْدُ اللهِ –جلَّ ثناؤه- هو آخرُ دعاءِ أهل الجنة، قال -جلَّ وعلا-: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (يونس:10).
معاشر المؤمنين.. وربُّنا -جلَّ وعلا- هو الحميد، فمن أسمائه الحسنى –عزَّ وجلَّ- الحميد، وقد ذكر –جلَّ ثناؤه- هذا الاسم في أكثرَ من خمسةَ عشَر موضعًا من القرآن، منها قوله –جلَّ ثناؤه-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر:15)، والحميد –عباد الله- اسمٌ عظيمٌ جليلٌ، دالٌّ على كمالِ اتصافِ ربِّنا –جلَّ وعلا- بالحمدِ واستحقاقِه له، فهو –جلَّ وعلا- الحميد المستحق للحمد؛ لما له من الأسماءِ الحسنى، والصفاتِ العليا، ولِما له –جلَّ جلاله- من الكمال والجلال والعظمة، وهو الحميد –جلَّ وعلا- على نِعَمِهِ المتوالية، وآلائه المتتالية، وعطاياه -جلَّ ثناؤه- التي لا تُعدُّ ولا تُحصى.
عباد الله.. ونبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم إمامُ الحمَّادين، وبيده صلواتُ الله وسلامُه عليه يومَ القيامةِ لواءَ الحمدِ، وهو لواءٌ حقيقي يُمسِكُه عليه الصلاة والسلام بيده، وينْضوي تحت هذا اللواء ويجتمعُ إليه الحمَّادون من الأولين والآخرين، ففي الترمذي من حديث أبي سعيدٍ الخُدْري –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا سيّدُ ولدِ آدمَ يومَ القيامةِ ولا فَخَر، وبيدي لواءُ الحمدِ ولا فَخَر، والنبيّون آدمُ فمَن سواه كلُّهم تحت لوائي يوم القيامة))، فالحمّادون –عباد الله- من الأولين والآخرين ينْضوون تحت هذا اللواءِ المبارك الكريم الذي هو بيد سيدِ إمامِ الحمَّادين صلواتُ الله وسلامُه عليه.
عباد الله.. وكلَّما كان العبدُ أكثرَ حمدٍ لله، كان أحظى وأولى بالقرب من هذا اللواء.
وفي الجنّة –أيها المؤمنون- بيتٌ يُقال له بيتُ الحمدِ، خصَّه ربُّنا -جلَّ ثناؤه- للحامدين في السرّاء والضرّاء، والشدِّة والرخاء، جاء في الترمذي وغيره أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا قُبِض ولدُ العبدِ المؤمن، قال الله –تعالى- لملائكته: أَقَبَضْتُُم ولدَ عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول –جلَّ ثناؤه-: أَقَبَضْتُُم ثمرةَ فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول –جلَّ ثناؤه-: وماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمِدَكَ واسترجع –أي: قال: الحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون-، قال: فيقولون: حمِدَكَ واسترجع، فيقول –تعالى-: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنّة، وسمُّوه بيت الحمد)).
عباد الله.. وينبغي على المؤمن أن يَغْنَمَ حياتَه، وأن يستغلَّ أوقاتَه بكثرةِ الحمدِ لله –جلَّ ثناؤه- في كلِّ وقتٍ وحينٍ، ولاسيِّما في الأوقات التي يتأكدُ فيها الحمد، وقد كان نبيُّنا عليه الصلاة والسلام يستفتحُ خطبَه بحمدِ الله -جلَّ ثناؤه-، وكان عليه الصلاة والسلام يُكثِر من حمد الله في صلاته ودُبُرَ الصلاة، فالصلاةُ –عباد الله- قائمةٌ على حمد الله -جلَّ وعلا-، فهي تُستفتح بحمد الله، وسورةُ الحمد ركنٌ من أركانها، وكان نبيُّنا عليه الصلاة والسلام يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحانك اللهم وبحمدك، اللهمَّ اغفر لي))، ويقول إذا رفع من الركوع: ((اللهم ربَّنا ولك الحمد، ملءَ السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئتَ من شيءٍ بعد، أحقُّ ما قال العبد))، أي: أنَّ حمدَ الله –عزَّ وجلَّ- أفضلُ شيءٍ يقوله العبد-، وكان عليه الصلاة والسلام يختتمُ صلاتَه بذكرِ اسم الله –جلَّ وعلا- الحميد، وكان يقول دُبُرَ كلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين مرةً: الحمدُ لله، يقولها في جملة ما يقوله من أذكارٍ في أدبار الصلواتِ المكتوبةِ، وكان نبيُّنا عليه الصلاة والسلام إذا أوى إلى فراشه لينام حمِدَ الربَّ الكريمَ العلاّمَ -جلَّ وعلا-، فكان عليه الصلاة والسلام يقول إذا أوى إلى فراشه: ((الحمد لله الذي أطعمني وسقاني وكفاني وآواني، فكم مِمَن لا كافيَ له ولا مُؤي))، وإذا قام حمِد الله –جلَّ وعلا-، فيفتتحُ يومَه بالحمدِ، ويختتم يومَه بالحمد، ويُكثر عليه الصلاة والسلام من الحمد في كلِّ وقتٍ وحين، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ((إنَّ الله ليرضى عن العبدِ أنْ يأكلَ الأكلةَ فيحمَدُه عليها، ويَشرَبَ الشَربةَ فيَحمَدُه عليها)) رواه مسلمٌ في "صحيحه"، وروى الترمذيُّ في "جامعه" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ أكلَ طعامًا فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا، ورزَقَنيه من غيرِ حولٍ مني ولا قوةٍ، غُفر له ما تقدم من ذنبه))، ((وكان عليه الصلاة والسلام إذا لبسَ ثوبًا جديدًا أو عِمامةً سمّاه باسمه، ثمَّ قال: اللهمَّ لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيرَه وخير ما صُنِعَ له، وأعوذ بك من شرِّه وشرِّ ما صُنِعَ له))، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا عطَسَ أحدُكم فليحمدِ الله))؛ لأن العطاسَ نعمةٌ، والعبدُ يراعي حمْدَ المُنعِم، ويُكثِر من شُكْرِه والثناءِ عليه في كلِّ وقتٍ وحين.
عباد الله.. والحمدُ نفسُه نعمةٌ، فمَن وُفِّقَ للحمدِ فقد وُفِّقَ لأعظمِ نعمةٍ، فإنَّ نعمةَ اللهِ –عزَّ وجلّ- على عبدِه بالحمدِ له –جلَّ وعلا- أعظمُ من النعمة بالطعام والشراب والزوجة والصِّحةِ وغيرِ ذلك من النِّعمِ، كما في الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أنعم على عبده بنعمة، فقال العبدُ: الحمد لله، كان ما أعطى أفضلَ مما أَخذ))، أي: أن ما أعطى العبدَ وهو الحمد لله، وهو مِنّة من الله –جلَّ وعلا- عليه أفضلُ مما أَخذ من النعم الدنيوية، من صِحّةٍ وعافيةٍ ومالٍ وولدٍ وزوجةٍ وغير ذلك. والحمدُ أفضل ُ الدعاء، كما أن لا إله إلا الله أفضل الثناء، ففي الحديث الصحيح عن نبيّنا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((أفضلُ الذكرِ: لا إله إلا الله، وأفضلُ الدعاءِ: الحمدُ لله)).
والحمدُ –عباد الله- يملأُ الميزانَ يومَ القيامةِ، ففي "صحيح مسلم" من حديث أبي مالكٍ الأشعري –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الطَهورُ شطرُ الإيمانِ، والحمدُ للهِ تملأُ الميزانَ، وسبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ تملأُ أو تملآنِ ما بينَ السماء ِوالأرضِ)). عباد الله.. فَلْنكُن لربِّنا –جلَّ وعلا- حامدين، ولنُكثِر من حمْدِ ربِّنا –جلَّ وعلا-؛ فإنه حميدٌ يُحبُّ الحمدَ، اللهمَّ وفِّقنا أجمعين لِحمْدِك وحُسْنِ الثناءِ عليك يا حميد يا مجيد، اللهمَّ اجعلنا من عبادك الحمَّادين الذين يَحمَدونك في الشِّدّةِ والرخاءِ، وفي السَّراءِ والضّرّاءِ، وفي كل حينٍ، أقول هذا القول، وأستغفرُ اللهََ لي ولكم ولسائرِ المسلمين، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ عظيمِ الإحسان، له الحمدُ في الأولى والآخرةِ، وله الحُكمُ، وإليه تُرجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد
عباد الله: اتقوا الله -تعالى-، واذكروا نعمَه –جلَّ وعلا- عليكم، وقيّدوا نعمَه –سبحانه- بحُسْنِ الثناء عليه، وحمْدِه وشُكرِْه –جلَّ وعلا-، فلله الحمد أولاً وآخرًا، وله الشكر ظاهرًا وباطنًا، وله –جلَّ ثناؤه- الحمدُ في كلِّ نعمةٍ أنعم علينا بها في قديمٍ أو حديثٍ، أو سرٍّ أو علانيةٍ، أو خاصّةٍ أو عامّةٍ، له الحمدُ بالقرآنِ، وله الحمدُ بالإسلامِ، وله الحمد بالإيمانِ، وله الحمد بالمعافاةِ، وله الحمدُ –جلَّ وعلا- أولاً وآخرًا، {هُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص:70)، {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى}: أيْ: في جميع ما خلق –جلَّ وعلا-، وله الحمد في الآخرة: أيْ: في جميعِ ما هو خالقٌ –جلَّ وعلا-، فالحمدُ كلُّه لله –عزَّ وجلَّ-.
عباد الله.. واعلموا أنَّ أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرُ الهدى هدى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثَاتُها، وكلَّ مُحدَثَةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار، وصلِّوا وسَلِّموا –رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب:56)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن صلّى عليَّ واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا))، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمّ عن الخلفاءِ الراشدين، الأئمةِ المهديين، وارضَ اللهمّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهمَّ أعزَّ دينك، وأعلِ كلمتَك يا ذا الجلال والإكرام، اللهمَّ وأصلح لنا شأننا كلَّه، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفةَ عين، اللهمّ وفِّق ولي أمرنا لرضاك، واجعلْ عمَلَه في هداك، اللهمَّ آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكّاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهمَّ اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياءِ منهم والأمواتِ، ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار، وآخرُ دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.
خطبة: فضائل الله أكبر
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وصَفيُّه وخليلُه، وأمينُه على وحيه، ومُبلِّغُ الناسِ شرعَه، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
معاشر المؤمنين –عباد الله-.. اتقوا الله –تعالى-، واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون.
عباد الله.. إنَّ من الذكرِ العظيم تكبيرُ اللهِ –جلّ وعلا-، وهو من الكلمات الأربع التي هي أحب الكلام إلى الله -عزّ وجلّ-، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أحبُّ الكلام إلى الله أربعٌ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)).
والتكبيرُ –أيها المؤمنون- عبادةٌ عظيمةٌ، وذِكْرٌ جليلٌ، وطاعةٌ عظيمةٌ، دعا اللهُ –سبحانه وتعالى- عبادَه إليها، ورغّبهم فيها في آياتٍ عديدةٍ من كتابه –عزّ وجلّ-، يقول الله –تعالى-: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (المدثر:1-3)، ويقول الله –جلّ وعلا-: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} (الإسراء:111).
عباد الله.. والتكبيرُ مصاحبٌ للمسلم في عباداتٍ عديدةٍ، وطاعاتٍ متنوعةٍ، يقول الله –تعالى- في شأن الصيام: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة:185)، ويقول –جلّ وعلا- في شأن الحج: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (الحج:37)،.
أمَّا شأْنُ التكبيرِ –عباد الله- في الصلاةِ وهي وظيفةُ المسلمِ اليوميةُ فأمرٌ عجَبٌ وأمرٌ عظيمٌ، فإنّ التكبيرَ –عباد الله- يتكرر مع المسلمِ في يومه وليلته مرّاتٍ عديدةٍ ومراتٍ كثيرةٍ، فالصلاة الثنائية –عباد الله- فيها إحدى عشر تكبيرة، والصلاة الرباعية فيها اثنتان وعشرون تكبيرة، وفي النداءِ للصلوات الخمس في اليوم والليلة وفي الإقامةِ لها خمسون تكبيرة، وعددُ تكبيراتِ المسلم في الصلوات المكتوبة في يومه وليلته أربعٌ وتسعون تكبيرة.
وإذا كان المسلمُ –عباد الله- يواظبُ أدبارَ الصلوات الخمس على التكبير ثلاثٍ وثلاثين مرّة كما هو ثابتٌ في السُّنّةِ، فإن عدد تكبيراته أدبار الصلوات في اليوم والليلة خمْسٌ وستون ومائةُ تكبيرة.
فالتكبيرُ –عباد الله- يترددُ على لسانِ المسلم، ويتكرر معه في أيامه ولياليه تكررًّا كثيرًا، مما يدلُّ على مكانةِ التكبيرِ العُظْمى، ومنزلتُه العليا في حياةِ المسلم.
وبهذا التكبير المتكرر مع المسلم في أيامه ولياليه تجديدٌ لعهدِ الإيمان، وتقويةٌ لميثاقِه العظيمِ، وربْطٌ للمسلم بالربِّ الكبيرِ العظيمِ –جلّ وعلا-، فإن كلمةَ "الله أكبر" ليست كلمةً لا معنى لها، أو لفظًا لا مدلول له، بل إنها -أيها المؤمنون- كلمةٌ تعني: تكبيرَ الله، وتعظيمَه –جلّ وعلا-، واعتقادَ أنه لا أكبر منه –عزّ وجلّ-، وأنّه –سبحانه- الكبيرُ المتعالُ، الذي عنَتْ له الوجوه، وذلّتْ له الجِباه، وخضَعت له الرِقاب، وتصاغرَ عند كبريائِه كلُّ كبيرٍ وعظيمٍ، روى الإمام أحمد في "مسنده" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لِعَديّْ في دعوته إلى الإسلام: ((يا عَديّ ما يُفِرُّكْ؟! –أي: ما الذي يجعلك تَفِرُّ من الإسلام؟_، قال: يا عديّْ، ما يُفِرُّك؟! أيُفِرُّكَ أن يُقال: لا إله إلا الله، وهل مِن إلهٍ غير الله؟!، يا عديّْ، ما يُفِرُّك؟! أيُفِرُّكَ أن يُقال: الله أكبر، وهل شيءٌ أكبرُ من الله؟!)).
التكبير –أيها المؤمنون- اعتقادٌ جازمٌ، وإيمانٌ راسخٌ بأن الله –جلّ وعلا- هو الكبيرُ المُتَعَالُ، وأنه –سبحانه- لا أكبر منه، يتصاغرُ عند كبريائه كلُّ كبير.
عباد الله.. وإذا أيقن المسلمُ أنّ ربَّه –جلّ وعلا- هو الكبيرُ المُتَعال، وأنّه –سبحانه- لا أكبر منه، يُدرك بذلك أنّ عظمةَ الله وكبرياءه أمرٌ تعجِز العقول عن إدراك كُنْهِهِ، أو تصوره أو معرفة كيفيته، وإذا كانت العقولُ قاصرةً عاجزةً ضعيفةً كالّةً أن تدركَ عظمة كثيرٍ من المخلوقات، فكيف بربِّ المخلوقات وخالقها العظيم؟!! الربِّ الكبيرِ –سبحانه-، روى الطبراني في "مُعجَمِه" عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: "مَا بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالَّتِي تَلِيهَا مَسِيرَةُ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْكُرْسِيِّ مَسِيرَةَ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ الْكُرْسِيِّ، وَالْمَاءِ مَسِيرَةَ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ عَلَى الْمَاءِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ"، وروى ابنُ أبي شيبة في كتابه "العرش" عن أبي ذرٍّ –رضي الله عنه- قال: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّمَا آيَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: " آيَةُ الْكُرْسِيِّ، مَا السَّمَاوَاتُ السَّبعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ تِلْكَ الْفَلَاةِ عَلَى تِلْكَ الْحَلْقَةِ "
عباد الله.. مَن يتأمل في هذه المسافات الشاسعة بين هذه المخلوقات، وهذه النِسَبِ المتفاوتة عندما يتأمل في نسبة الأرض إلى السماء، ويتأمل في نسبة السماوات إلى الكرسي، ويتأمل في نسبة الكرسي إلى العرش، يجدُ بَوْنًا واسعاً، وتفاوتًا كبيرًا يدلُّ على عظمةِ هذه المخلوقات وكِبَرها وسَعتِها، وقد قال الله في آية الكرسي مبينًا عظمةَ خالقَ الكرسي –سبحانه-: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (البقرة:255)، ولِذَا ختم الآية -جلّ وعلا- بقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:255).
عباد الله.. إن المسلمَ بهذا التَكرار للتكبير في يومه وليلته يتجدّد معه في قلبه إيمانُه بكبرياء الله، وعظمةِ الربِّ –سبحانه وتعالى-، وأنّه –جلّ وعلا- لا شيءَ أكبر منه، وبهذا يترسّخ الإيمانُ، ويتقوّى اليقينُ، وتعظُم الصلةُ بربِّ العالمين –جلّ جلاله-، وبهذا تتفتّحُ أبوابُ الخير، وتُفتَحُ للعبد أبوابُ السماوات، روى الإمامُ مسلم في "صحيحه" عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- قال: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنِ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا». قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « عَجِبْتُ لَهَا فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ ». قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ ذَلِكَ.
ويقول عمرُ بنُ الخطاب فيما يُروى عنه –رضي الله عنه-: "قول العبد: الله أكبر، خيرٌ من الدنيا وما فيها".
فاللهُ أكبر كبيرًا، والحمدُ لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، أقول هذا القول، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيمِ الإحسان، واسعِ الفضلِ والجودِ والإمتنانِ، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعدُ
عباد الله: اتقوا الله -تعالى-، وراقبوه في السرِّ والعلانيةِ مراقبةَ مَن يعلم أن ربَّه يسمعه ويراه.
وتقوى الله –جلّ وعلا-: عملٌ بطاعةِ الله على نورٍ من الله؛ رجاءَ ثوابِ الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله؛ خيفةَ عذابِ الله.
واعلموا –رعاكم الله- أنَّ الكيّسَ من عبادِ الله مَن دانَ نفسَه وعمِل لما بعد الموت، والعاجز مَن اتْبع نفسَه هواها، وتمنّى على الله الأماني.
واعلموا أنّ أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرُ الهدى هدى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثَاتُها، وكلَّ مُحدَثَةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بالجماعة فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، وصلِّوا وسَلِّموا –رعاكم الله- على محمدٍ بن عبد الله كما أمركم الله.... إلى آخر الخطبة |