حَقِيقَةُ الْإِيمَان
خطبة جمعة بتاريخ / 24-5-1442 هـ
إنّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب
إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن
يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا
عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، وأمينه على وحيه، ومُبلِّغ الناس شرعَه،ما ترك خيرًا
إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرها منه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى
آله وصحبه أجمعين .أمّا بعد:
أيها المؤمنون عباد الله: اتّقوا الله تعالى ؛ فإنّ
في تقواه خَلَفًا من كل شيء، وليس من تقوى الله خَلَف،﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70-71].
أيها المؤمنون: إنَّ أجلَّ
المطالب وأعظمها وأرفع المقاصد وأنبلها؛ الإيمان بالله وبكل ما أمر عباده تبارك
وتعالى به، وقد ضرب الله عز وجل في القرآن للإيمان مثلًا عظيما يجلِّي حقيقته
ويبين معناه، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ
اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَـيِّـبَـةً كَشَجَرةٍ طَـيِّـبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ
رَبِّـهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾[إبراهيم:24-25].
الإيمان -معاشر المؤمنين- له
أصلٌ ثابت وفرعٌ قائم وثمارٌ متنوعات؛ أما أصل الإيمان الذي عليه قيامه ولا قيام
للإيمان إلا به؛ فهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان
بالقدر خيره وشره، قال الله تعالى : ﴿لَّيْسَ
الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللهِ وَالْـيَـوْمِ الآخِـرِ وَالْمَـلَآئِـكَـةِ
وَالْـكِـتَـابِ وَالـنَّبِـيِّـينَ﴾ [البقرة:177]، وقال الله تعالى: ﴿يَآ
أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ
الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَـبْـلُ
وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء:136]، وقال جل
وعلا : ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ
رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللهِ وَمَلَآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة:285].
أيها المؤمنون : والأعمال الصالحات والطاعات الزاكيات وأنواع القربات التي
يُتقرب بها إلى الله كلها من الإيمان وداخلةٌ في مسمَّاه، قال الله جلَّ وعلا عن
الصلاة : ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة:143] أي: صلاتكم ،
فسمى جل وعلا الصلاة إيمانا ، وفي الحديث -حديث وفد عبد القيس وهو مخرج في
الصحيحين- قال النبي عليه الصلاة والسلام : ((آمُرُكُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ، أَتَدْرُونَ
مَا الْإِيمَانُ بِاللهِ ؟)) قَالُوا :«اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ» ، قَالَ: ((شَهَادَةُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ، وَإِقَامُ
الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُعْطُوا الْخُمُسَمِنَ الْمَغْنَمِ))؛
فعدَّ عليه الصلاة والسلام هذه الأعمال الصالحات من الإيمان .
أيها المؤمنون: ويدخل في
الإيمان؛ البُعد عن الحرام وترك الآثام طاعةً للرب العظيم سبحانه وتعالى، ولهذا
جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
: ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَشْرَبُ
الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ
يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ
النَّاسُ إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ فِيهَا حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) ، وقد
أفاد هذا الحديث العظيم أن البُعد عن الحرام وترك الآثام كل ذلك داخلٌ في مسمى
الإيمان .
أيها المؤمنون: والأخلاق
الفاضلة والآداب الكاملة والمعاملات الرفيعة كلها داخلةٌ في مسمى الإيمان، قال صلى
الله عليه وسلم:((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا)) .
أيها المؤمنون: الإيمان شعبٌ
كثيرة وخصالٌ عديدة، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ
شُعْبَةً، أَعْلاهَا شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ
الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ)) .
أيها المؤمنون: الإيمان
عقيدةٌ وشريعة، علمٌ وعمل، طاعةٌ وثبات، وفي حديث سفيان بن عبد الله الثقفي لما
قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أخبرني في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك؟»
قال: ((قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثم اسْتَقِمْ)) .
نسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا
أن يزيِّن قلوبنا أجمعين بالإيمان، وأن يصلح لنا شأننا كله، وألا يكلنا إلى أنفسنا
طرفة عين .
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر
المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنّه هو الغفور الرّحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وَّسلم عليه وعلى آله وصحبه
أجمعين. أمّا بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله؛ فإن من اتَّقى الله وقاه، وأرشده إلى
خير أمور دينه ودنياه.
أيها المؤمنون: إنَّ
الإيمان قد تعتريه في هذه الحياة أمورٌ تُضعِفه وتُذهِب جِدَّته وتوقِعه في نقصٍ
وربما خلل، ولهذا فإن العبد المؤمن الناصح لنفسه ينبغي عليه أن يكون في مجاهدةٍ
تامة لتقوية إيمانه وتمتين دينه وتقوية صلته بربه تبارك وتعالى، ثبت في الحديث
الصحيح أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال : ((إِنَّ الإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي
جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ الْخَلِقُ ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ
يُجَدِّدَ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ)) .
جدَّد الله الإيمان في قلوبنا أجمعين، وأصلح لنا شأننا
كله إنه سميعٌ مجيب .
هذا وصلُّوا
وسلِّموا على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال :﴿ إِنَّ اللَّهَ
وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)).
اللهم صلِّ
على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد،
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد
مجيد .وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين؛ أبي بكر الصدِّيق، وعمر
الفاروق، وعثمان ذي النُّورين، وأبي الحسنين عليّ، وارض اللهم عن الصَّحابة أجمعين،
وعن التَّابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين، وعنّا معهم بمَنِّك وكرمك
وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزّ
الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه
وسلم، اللهم أصلح لنا أجمعين شأننا كله ولا تكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين .اللهم آمِنَّا
في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا،واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاكيا
رب العالمين .اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لهُداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم وفِّقه
وولي عهده لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال .
اللهم آت
نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها.اللهم أصلح لنا ديننا
الذي هو عصمة أمرنا ،وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي
فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.اللهم
اغفر لنا ذنبنا كله؛ دقه وجله ،أوله وآخره ، علانيته وسره ، اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا
وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منَّا ، أنت المقدم وأنت المؤخر،
لا إله إلا أنت .
اللهم إنا
نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا ، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا،
اللهم أغثنا، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وبأنك أنت الله لا إله
إلا أنت يا من وسعتَ كل شيء رحمةً وعلما؛ أن تُنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من
اليائسين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا نسألك غيثًا
مغيثا، هنيئًا مريئا، سحًّا طبقا، نافعًا غير ضار، عاجلًا
غير آجل ، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزِدنا
ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا .ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
وقنا عذاب النار .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125
|