حقيقة العبادة
الحمد لله رب
العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له الرزاق ذو القوة المتين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين
بلسان عربي مبين ، فبلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده
حتى أتاه اليقين ، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها
المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ؛ فإن من
اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه .
أيها المؤمنون
عباد الله : إن العبادة هي الغايةُ المحبوبة لله ، المرضيةُ له سبحانه ، التي
لأجلها خلق الجن والإنس كما قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]، وبها أرسل رسله
الكرام وأنزل كتبَه العظام قال الله تبارك وتعالى: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) [النحل:36]،
وقال الله
تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25]، والآيات في هذا المعنى كثيرة .
أيها المؤمنون
: والعبادة أساس السعادة وسبيل الفلاح وعنوان سعادة العبد في دنياه وأخراه ؛ فلا
حياة هنيئة ولا سعادة في هذه الدار وفي دار القرار إلا بتحقيق العبودية لله التي
هي حق الله على العباد .
أيها المؤمنون
: وحياة الإنسان إذا أحسن المعاملة مع الله وحقق تمام الإقبال على الله تمضي كلها عبودية
لله كما قال الله جل شأنه: ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام:162-163].
أيها المؤمنون
: ليست العبادةُ منحصرةً في عمل معيّن أو في طاعةٍ تؤدى في المسجد فقط ؛ بل
العبادة أشمل من ذلك وأعم ، فالعبادة - أيها المؤمنون - تكون بالقلب وباللسان
والجوارح :
§ أما
عبودية القلب لله : فبإيمانه بالله وبكل ما أمر الله جل شأنه بالإيمان
به ، قال الله تعالى: ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ
وَالنَّبِيِّينَ) [البقرة:177]
فالإيمان
بالله وبكل ما أمر -جل شأنه- بالإيمان به هو أس العبادة الذي عليه تقوم وركنها
الذي عليه تُبنى ، والله يقول: ) وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ
حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( [المائدة:5]. ويدخل في العبادة جميع عبوديات
القلب من الأعمال الصالحات والأفعال الزاكيات التي يقوم بها قلب المؤمن طاعةً لله
وتعبداً له وطلباً لرضاه ؛ كمحبته سبحانه وخشيته جل وعلا والصبر لحكمه والتوكل
عليه والرضا عنه وبه وخوفه ورجائه والإنابة إليه والحياء منه جل وعلا ونحو ذلكم من
العبادات القلبية ، فكل ذلكم داخل في مفهوم العبادة ويشمله مسماها .
§ ويدخل
في العبادة - أيها المؤمنون - عبادات اللسان ؛ وأعظم ذلكم : النطق
بالشهادتين ؛ فهي أساس الإسلام وعموده الذي عليه يبنى ، ثم كذلكم سائر الأقوال
الزاكيات ، والكلمات الطيبات ، والأقوال المسددات التي يقولها المرء بلسانه تقرباً
لرب البريات كل ذلكم داخلٌ في العبادة ؛ كذكر الله وتلاوة كتابه والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وتعليم العلم ونحوِ ذلكم فكله من العبادة .
§ ويدخل
- أيها المؤمنون - في العبادة: جميعُ أعمال البدن التي يتقرب بها
العامل إلى الله عز وجل من صلاة وصيام وحجٍ وبرٍ وإحسان وغير ذلكم من الطاعات التي
يحبها الرحمن جل شأنه ، فكل ذلكم داخل في مفهوم العبادة .
§ ويدخل
في مفهومها - أيها المؤمنون - : العبادات المالية فيما ينفقه
العبد من نفقات ويخرجه من زكوات ويتقرب إلى الله به من نفقات ؛ فذلكم كله من
العبادة ، فالزكاة المفروضة عبادة ، والصدقة المُتنَفلُ بها إلى الله عبادة ،
وإعانة المحتاجين ، ومساعدة الناس من فقيرٍ أو أرملةٍ أو نحوِ ذلك بقصد التقرب إلى
الله كل ذلكمُ داخل في العبادة ، ففي الصحيح عن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: ((وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ
اللهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِيّ امْرَأَتِكَ)) ؛ نعم - أيها المؤمنون - إذا أنفقت
على أهلك وولدك وحرصتَ على إطعام الطعام والإحسان متقرباً بذلك إلى الله راجياً به
ثواب الله فإنه داخل في العبادة ، وهو مما يأجرك الله عليه ويثيبك عليه عظيم
الثواب .
§ ويدخل
- أيها المؤمنون - في مفهوم العبادة: الحقوق التي أوجبها الله على العباد
أو ندبَهم إليها من أنواع البر والإحسان تجاه المخلوقين كبِرِّ الوالدين ، وصلة
الأرحام ، ورعاية حقوق الجار ، والإحسان إلى الناس عموما بإغاثة ملهوف أو جبر كسيرٍ
أو مساعدة محتاج أو نحو ذلك ؛ فكل ذلكم من العبادة التي يُتقرب إلى الله جل وعلا
بها .
§ أيها
المؤمنون : بل إن المباحات التي أباح الله عز وجل لعباده فعلها
فإنها تدخل في مفهوم العبادة إذا حسُنت النية وطاب القصد ؛ فإذا أكلت طعامك
وشرِبتَ شرابك ونِمْتَ نومتك الهنيئة ترجو بها أجر الله محتسبا فإنك تؤجر على
طعامِك وشرابِك . نعم - أيها المؤمنون - عندما تطعم الطعام وتشربُ الشراب وتنام
لتتقوى بذلك على طاعة الله -جل وعلا- فإنك تؤجر على هذه النية في طعامِك وشرابِك
ونومَتِك ، جاء في صحيح البخاري أن أبا ذرٍ -رضي الله عنه -سأل معاذاً -رضي الله
عنه- عن قراءته للقرآن ؛ قال رضي الله عنه: (( أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَأَقُومُ وَقَدْ
قَضَيْتُ جُزْئِي مِنْ النَّوْمِ فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِي فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي
كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي )) فالنومة تُحتسب ، والأكلةُ تحتسب ،
والشربةُ تحتسب بالنية الصالحة وقد قال عليه الصلاة والسلام : ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا
نَوَى
)) .
§ أيها
المؤمنون
وبُعْد العبد عن الحرام وتجنّبه الآثام وابتعاده عن كل ما يسخط الملكُ العلَّام -جل
شأنه- لأجل الله وطلباً لرضاه كل ذلكم داخل في مفهوم العبادة ؛ فإذا تجنب المؤمن
الزنا والسرقة والغِشَ والكذبَ والخيانة وغير ذلِكم من المحرمات خوفاً من الله
ورجاءً لثواب الله كتبت له تلك في حسناته ، جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال : (( إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً
فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا
وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي - وهذا موضع الشاهد - فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً )) . فمن ترك - أيها المؤمنون- الحرام
وابتعد عن الآثام خوفاً من الله ورجاءً لثوابِ الله ولأجل الله سبحانه وتعالى كان
ذلِكم من جملة حسناته ومعدوداً في طاعاته ، وهو مما يأجره الله عليه ويثيبه عليه
عظيم الثواب .
وبهذا أيها المؤمنون نتبيّن أن المؤمن بنيةٍ صالحة
وحسن اتباع للرسول صلى الله عليه وسلم تمضي حياتُه كلُها عبادةً لله محققاً بذلكم
قول الله جل شأنه: ) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( [الحجر:99].
أقول هذا
القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو
الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله
عظيمِ الإحسان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد - أيها المؤمنون- اتقوا الله تعالى .
عباد الله : والعبادة لا يقبلها الله جل وعلا من العامل إلا بشرطين عظيمين وأصلين
متينين ألا وهما : الإخلاص للمعبود ، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد جمع
الله بينهما في قوله: ) فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ( [الكهف:110].
وللعبودية - أيها المؤمنون- أركان مكانها القلب لابد من توافرها في كل
عبادة وهي : حب الله ، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه جل شأنه . وقد جمع سبحانه بين هذه
الأركان في قوله سبحانه: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) [الإسراء:57] .
عباد الله لِنسأل الله جل وعلا ولْنطلب مده وعونه دائماً وأبدا أن يعيننا
جميعاً على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمّد بن عبد الله
كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ( إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56]
، وقال صلى
الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا)) ، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت
على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد . وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين
الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن
التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنـِّك وكرمك وإحسانك يا
أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك
والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين . اللهم آمنا في
أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك
يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك وأعِنه على طاعتك ورضاك ، اللهم وردّه
إلينا معافى يا رب العالمين ، اللهم رب الناس مُذهب البأس اشفه أنت الشافي لا شفاء
إلا شفاؤك شفاءً لا يغادره سقما .
اللهم آتِ نفوسنا تقواها زكها أنت خير من
زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى ، اللهم
أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح
لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا
من كل شر . اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا
تمكر علينا ، واهدنا ويسّر الهدى لنا ، وانصرنا على من بغى علينا . اللهم اجعلنا
لك شاكرين ، لك ذاكرين ، إليك أوّاهين منيبين ، لك مخبتين ، لك مطيعين . اللهم
تقبل توبتنا ، واغسل حوبتنا ، وثبِّت حجتنا ، واهد قلوبنا ، وسدد ألسنتنا ، واسلل
سخيمة صدورنا .. اللهم واغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقه وجله، أوله وآخره ، سره وعلنه .
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا ، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا ،
أنت المقدِّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت .
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل
السماء علينا مدرارا . اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت ؛ أنت الغني
ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا
تجعلنا من اليائسين . اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر ، اللهم أغثنا ،
اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم إنا نسألك غيثاً مغيثا ، هنيئاً مريئا ، سَحًا
طبقاً ، نافعاً غير ضار ، عاجلاً غير آجل . اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا عذاب
ولا غرق. اللهم لا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا . اللهم أعطنا ولا تحرمنا وزدنا
ولا تنقصنا وآثرنا ولا تؤثر علينا . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
وقنا عذاب النار .
عباد الله : اذكروا الله
يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ
} . |