تأمّلات في سورة العصر
إنّ
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات
أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيُّه وخليله وأمينه على وحيه
ومبلِّغ الناسَ شرْعَه ، ما ترك خيراً إلا دلَّ الأمّة عليه ولا شراً إلا حذّرها
منه فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله
وصحبه أجمعين .
أما
بعد معاشر المؤمنين عباد الله:
اتقوا الله تعالى، وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعه ويراه .
عباد الله : سورة في القرآن الكريم وجيزةٌ ألفاظها وكلماتها ، بليغةٌ
معانيها ودلالاتها ، مع وجازتها أتت على الخير بحذافيره وجمعت البرَّ بأنواعه ألا
وهي سورة العصر ؛ يقول الله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ
(1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .
ألا ما أعظم شأنها وما أرفع مكانتها وأجزل دلالاتها ومعانيها ، سورة بليغة
عظيمة مشتملة على موعظة مؤثرة ، سورة - عباد الله - حوَت الخير كله وجمعته
بحذافيره قال عنها الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : " لو فكَّر الناس في هذه
السورة لكفتهم " أي لكفتهم واعظاً وزاجراً وسائقاً الخير والبر بأنواعه . نعم
- عباد الله - إنّ هذه السورة فيها أعظم زاجرٍ وأبلغ موعظة .
عباد الله : هذه السورة العظيمة حقيق بكلِّ مؤمن أن يتأمَّلها وأن يتدبر
دلالاتها وأن يقف عند وعظها وزجرها وأن تكون له سائقاً إلى الخير بأبوابه المتنوعة
ومجالاته الفسيحة.
عباد الله : لقد صدّر الله جلّ وعلا هذه السورة المباركة بالقسم بالعصر ؛
أقسم جلَّ شأنه بالعصر، والعصر : هو الدَّهر ، هو الزمان الذي هو ميدان الأعمال
ومجال الطاعات أو غيرها ، والناس مع العصر والزمان بين محافظٍ ومضيّع ، وحال الناس
مع الزمان والعصر إمَّا في غنيمة وربح ، وإما في إضاعةٍ وخسران ، والليالي والأيام
تمضي والشهور والأعوام تمر ، وكل ما يمر من الزمان والوقت محسوبٌ على الإنسان
ومعدودٌ في عمره وهو فيه بين خاسر ورابح .
قال جلّ شأنه : {وَالْعَصْرِ
(1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } ؛ هذا المقسَم عليه وهو أن
الإنسان خاسر، والمراد بالإنسان : أي جنسه ، والمعنى : أي كلُّ الناس خاسرين إلا
من استثناهم الله جلّ وعلا في هذه السورة ، قال جل شأنه : {إِنَّ
الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ولم يقل إن الإنسان لخاسر لأن قوله لفي خسر أبلغ ، وذلك أن " في "
تدل على الظرفيّة ، والمعنى – عباد الله - أنّ كل إنسان وأنّ جميع الناس منغمسون
في الخسران والخسران محيطٌ بهم من كل جانب إلا من استثناهم الله جلَّ وعلا وهم : { الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ } ألا ما أجدر الإنسان أن
يُقبل على هذه الأوصافِ الكاملة والنعوتِ العظيمة ليكون من أهلها ولينجو بذلك من
سبيل الخاسرين .
{ إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا } : أي بالله جلّ وعلا وبكلِّ
ما أمرهم سبحانه بالإيمان به ، ويدخل في ذلك أصول الإيمان وقواعد الدّين، كما قال نبينا
عليه الصلاة والسلام : (( الإيمان : أَنْ تُؤْمِنَ
بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ
بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ )).
{ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ } : أي الطّاعات الزاكيات
والقربات العظيمات التي يتقرب بها أهلُ الإيمان إلى الله ، والأعمال لا تكون صالحة
إلا إذا كانت لله خالصة ولسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم موافقة ؛ فإن العمل إن
لم يكن خالصاً ولم يكن صواباً على السنة فإنه لا يكون عملاً صالحا بل يُردّ على
صاحبه ولا يُقبل منه.
وقوله جل وعلا : { وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ } أي أوصى بعضُهم بعضاً بالحقّ ، والحق - عباد الله - يشمل التوحيد والإيمان
، ويشمل العناية بالقرآن والسنة ، ويشمل الاهتمام بالفرائض والواجبات ، ويشمل
البعد عن النواهي والمحرمات ؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله
جلّ وعلا كلُّ ذلكم من التواصي بالحق .
وقوله جلّ وعلا : {وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ } أي أوصى بعضُهم بعضاً بالصبر ، وأمّةُ الإسلام وأفراد أهل الإيمان في حاجة
ماسة إلى الصبر في شؤونهم كلها ؛ فالطاعات تحتاج إلى صبر ، والمعاصي يحتاج تركها
إلى صبر ، والأقدار المؤلمة تحتاج إلى صبر ، والدّعوة إلى الله عز وجل تحتاج إلى
صبر ، وتعلُّم العلوم النافعة يحتاج إلى صبر ، فالصبر - عباد الله - مقام عظيم من مقامات الدِّين
يحتاج إليه المؤمن في عباداته وشؤونه وأحواله ؛ ولهذا كان من أوصاف النّاجين
الرابحين أن يوصي بعضُهم بعضاً بالصبر على طاعة الله ، والصبر عن معصية الله ،
والصبر على أقدار الله المؤلمة.
عباد الله : وبهذا نعلم أن هذه السورة الوجيزة البليغة اشتملت على قواعد
الإيمان وأصول الدّين وشرائع الإسلام والوصايا العظيمة المرضية .
ألا ما أحرانا -
عباد الله - أن نُعنى بهذه السورة تفكّراً وتدبّراً لتكون لنا إماماً في السّير في
طاعة الله وفراراً من الخسران والعواقب .
وإنا
لنسأل الله جلّ وعزّ أن يعيننا على طاعته وأن لا يجعلنا من الخاسرين ، وأن يجعلنا
بمنّه وكرمه من أهل الإيمان والأعمال الصالحات من المتواصين بالحقّ ومن المتواصين
بالصبر. أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه
يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة
الثانية :
الحمد
لله عظيم الإحسان ، واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله وحده لا شريك
له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما
بعد عباد الله :
اتقوا الله تعالى ، واعلموا - رعاكم الله - أنَّ الإنسان له في هذه الحياة مدّة
محدودة وزمن محدود لا يتقدم عنه ساعة ولا يتأخر ، فإذا انتهى زمان الإنسان في هذه
الحياة انتهت فرصته في تحقيق سبيل الرِّبح والسلامة من سبيل الخسران ؛ فالكيِّس -
عباد الله - من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى
على الله الأماني ، واعملوا أن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكلّ محدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ،
وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة .
وصلُّوا وسلِّموا - رعاكم الله - على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله
بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَلَّى
عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل
إبراهيم إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم
وعلى آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد . وارضَ اللهمّ على الخلفاء الرّاشدين ؛ أبي بكر
الصديق ، وعمر الفاروق ، وعثمان ذي النورين ، وأبي الحسنين علي ، وارض اللهمّ عن
الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بكرمك
ومنّك وإحسانك يا أرحم الرّاحمين .
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين ، وأذلّ الشِّرك والمشركين ، ودمِّر أعداء
الدّين ، اللهمَّ عليك بأعداء الدّين فإنهم لا يعجزونك ، اللهمّ إنّا نجعلك في
نحورهم ونعوذ بك اللهمَّ من شرورهم ، اللهمّ وانصرْ إخواننا المسلمين المستضعفين
في كلّ مكان ، اللهم كن لهم حافظاً ومؤيّداً وناصراً ومُعيناً ، اللهمّ آمِنا في
أوطاننا وأصلح أئمّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك
يا ربَّ العالمين , اللهمّ وفِّق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك وأعنه على طاعتك وأصلح له البطانة يا ذا الجلال
والإكرام , اللهمّ وفِّق جميع ولاة أمر المسلمين لكل قول سديد وعمل رشيد .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، زكِّها أنت خير من زكّاها أنت وليها ومولاها ،
اللهمّ إنّا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك وشكر نعمتك وحسن عبادتك ، ونسألك
اللهم قلباً سليماً ولساناً صادقاً ، ونسألك من خير ما تعلم ونعوذ بك من شرِّ ما
تعلم ونستغفرك مما تعلم إنك أنت علام الغيوب . اللهم أصلح ذات بيننا وألف بين
قلوبنا، واهدنا سُبل السَّلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، وباركْ لنا في
أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأوقاتنا وأموالنا واجعلنا مباركين أينما
كنّا. اللهمّ اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخّرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم
به منّا ، اللهمّ اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
الأحياء منهم والأموات .
اللهمّ
إنّا نحمدك حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه على ما مننتَ به علينا من الغيث ، وإنّا لنسألك إلهنا وسيّدنا ومولانا أن تُسقينا غيثاً مُغيثاً ، اللّهمَّ
تفضل علينا بالغيث يا ذا الجلال والإكرام يا واسع الفضل يا عظيم الجود والمنّ .
اللّهمّ إنّا نتوجه إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا وبأنّك أنت الله الذي لا
إله إلا أنت يا من وسعت كلَّ شيء رحمةً وعلماً أن تمنَّ علينا بالغيث يا غِياث
المستغيثين ويا إلهنا وسيدنا ومولانا. اللّهمّ أغثنا ، اللهمّ أغثنا ، اللهمّ
أغثنا، اللهمّ أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر ، اللّهمّ إنّا نسألك غيثاً
مُغيثاً ، هنيئاً مريئاً ، سَحَّا طبقا ، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل. اللهمّ
اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهمّ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين.
إلهنا وربَّنا وسيّدنا ومولانا اللّهمّ أغثنا ، اللّهمّ أغثنا ، اللهمّ أغثنا ، اللهمّ
أعطنا ولا تحرمنا وزِدْنا ولا تنقصنا وآثرنا ولا تُؤثر علينا ، اللهمّ رحمتك نرجو
فلا تكلنا إلا إليك ، اللهمّ لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين لا إله إلا أنت سبحانك
إنّا كنّا من الظالمين .
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النّار ، وآخر دعوانا
أن الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله وسلّم وبارك وأنعم على عبد الله ورسوله
نبيّنا محمّد وآله وصحبه أجمعين .
|