الهَمُّ والحَزَنُ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عبادَ اللهِ:
اتقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا أَنَّ الحَياةَ الطيِّبَةَ لَا تَحْصُلُ لِلعَبدِ
بَعْدَ تَوْفِيقِ اللهِ، إلا بِالتَّوْحِيدِ والسَّلامَةِ مِنْ الشِّرْكِ،
وَبِالإيمانِ والعَمَلِ الصالِحِ، قال تعالى: ﴿ مَنْ
عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾.
أيُّها المسلمون:
كان رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، كَثِيرًا مَا
يَسْتَعِيذُ باللهِ مِن الهَمِّ والحَزَنِ، وَمَا ذاكَ إلَّا لِعِظَمِ خَطَرِهِما
عَلَى العَبْدِ فِي أُمُورِ دِينِهِ وَدُنياه.
وَلَيْسَ
الْمَقْصُودُ بِالهَمِّ هَمَّ الآخِرَةِ، وَالدِّينِ ونُصْرَةِ
الإسلامِ. فَإِنَّ هَذَا الهَمَّ عَلَامَةٌ عَلَى حَياةِ القَلْبِ وَعُلُوِّ
الهِمَّةِ وَقُوَّةِ الإيمانِ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ
أَيْضًا الهَمَّ اليَسِيرَّ الذي يَعْتَرِي الإنسانَ أَحْيانًا ثُمَّ
يَزُولُ، لِأَنَّ هذا الهَمَّ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ، بَلْ هُوَ مِنْ
مُكَفِّراتِ الذُّنُوبِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ:
مَا يُلازِمُ العَبْدَ بِسَبَبِ ضَعْفِ الإيمانِ،
وَكَثْرَةِ الذُّنُوبِ، والإقبالِ عَلَى الدنيا، وانْشِغالِ القَلْبِ بِمَا
يَضُرُّ. لِمَا فِيهِمَا مِنْ الأَثَرِ البَالِغِ عَلَى العَبْدِ: مِنْ انْشِغَالِ
القَلْبِ عَنْ تَحْصِيلِ مَا يَنْفَعُهُ، وتَفَرُّقِ أَمْرِهِ، وَعَدَمِ إقبالِهِ
عَلَى اللهِ، وَكَثْرَةِ قَلَقِهِ وَتَفْكِيرِهِ. وَحِرْمانِ صاحِبِهِ مِنْ
تَحْصِيلِ العِلْمِ النافِعِ. وَقَدْ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِما ضَرَرٌ عَلَى البَدَنِ
والصِّحَّةِ: فَكَثِيرًا مَا نَسْمَعُ بِأَمْراضٍ مُسْتَعْصِيَةٍ بَدَنِيَّةٍ
وَنَفْسِيَّةٍ يَصْعُبُ عِلَاجُها بِسَبَبِ ذلك. وَمِن آثارِهِما السَّيِّئَةِ:
التَّأْثِيرُ عَلَى تَصَرُّفاتِ الشَّخْصِ وَسُلُوكِيَّاتِه وَتَعامُلِهِ مَعَ
الآخَرِين، بِمَا في ذلك زَوْجَتُهُ وَأَوْلادُهُ. فَقَدْ يَتَّخِذُ قَراراتٍ
مُجانِبَةٍ لِلصَّوَابِ بِسَبَبِ ذلك، وَقَدْ تَسُوءُ عَلَاقَتُهُ مَعَ زَوْجَتِهِ
بِسَبَبِ ذلك، وَقَدْ يَجُورُ فِي تَصَرُّفِهِ وَتَعامُلِهِ مَعَ أولادِهِ
بِسَبَبِ ذلك.
وَلِلْهَمِّ
والحَزَنِ أَسْبابٌ:
أَوَّلُها: الذُّنُوبُ
والْمَعاصِي. فَإِنَّ لِلْمَعْصِيَةِ ظُلْمَةً فِي القَلْبِ، تَجْعَلُ
صاحِبَها فِي هَمٍّ وَغَمٍّ، وَوَحْشَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، تَجْعَلُهُ
لَا يَتَلَذَّذُ بِطاعَةِ اللهِ، وَلَا يَأْنَسُ بِذِكْرِ اللهِ. يَقُولُ النبيُّ
صلى اللهُ عليه وسلم: ( إذا أَذْنَبَ العَبْدُ،
نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْداءُ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ واسْتَغْفَرَ،
صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ، زِيدَ فِيها، حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ
الرَّانُ الذي قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿ كَلَّا بَلْ
رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ ).
الثاني:
التَّعَلُّقُ بالدنيا، يَقُولُ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( مَنْ كانت الدُّنيا هَمَّه، فَرَّقَ اللهُ عليه أَمْرَه،
وجَعَل فقرَه بين عَيْنَيْه، ولَمْ يأتِه مِن الدنيا إلا ما كُتِبَ لَه. ومن كانت
الآخرةُ نِيّتَه، جَمَعَ اللهُ له أَمْرَه، وجَعَل غِناه في قلبِه، وأَتَتْهُ
الدنيا راغِمَة ). وَقَدْ دَعا النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم عَلَى عَبْدِ
الدينارِ والدِّرْهَمِ بِالتَّعاسةِ فقال: ( تعِسَ
عَبْدُ الدينارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ ).
الثالثُ:
الأَوْهامُ: فَإِنَّها مِن الأَمْراضِ النَّفْسِيَّةِ، وَهِيَ مَا يَقَعُ
في القَلْبِ مِنْ الخَوَاطِرِ، وَتَضْخِيمِ الوَقَائِعِ إِلَى عدة أُمُورٍ غَيْرِ
حَقِيقِيَّةٍ، سَوَاءً كانَت الوَقَائِعُ مُتَعَلِّقَةً بِنَفْسِ الشَّخْصِ، أَوْ
بِحُكْمِهِ عَلَى الآخَرِين. فَكَمْ مِنْ شَخْصٍ أَصابَه عَارِضٌ يَسِيرٌ فِي
صِحَّتِهِ، فَصارَ بِسَبَبِ الوَهْمِ مَرَضًا مُسْتَعْصِيًا. وَكَمْ مِنْ شَخْصٍ
أَلْصَقَ بِإِخْوانِهِ التُّهَمَ وَهُمْ أَبْرِياءُ مِنْها، بِسَبَبِ الأوْهامِ.
وَكَمْ مِنْ شَخْصٍ وَقَعَ فِي الوَسْوَاسِ فِي صَلَاتِه وَطَهارَتِهِ بَلْ
وَعَقِيدَتِهِ بِسَبَبِ الأَوْهامِ.
الرابعُ:
كَثْرَةُ الجِدَالِ فِي الأُمُورِ التي لَا تُفِيدُ، والتي لَا يَجْنِي
مِنْها الْمُتَحاوِرُونَ إلَّا ضَيَاعَ الوَقْتِ وإيغَارَ الصُّدُورِ. وَقَدْ
تَكَفَّلَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وَسَلَّم بِبَيْتٍ ( فِي
رَبَضِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِراءَ وَإِنْ كانَ مُحِقًّا ).
وَأَخْبَرَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم أَنَّه مِن عَلَامَاتِ الضَّلالِ
بِقَوْلِه: ( ما ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى أُوتُوهُ
إلَّا أُوتُوا الجَدَلَ ). مَا لَمْ يَكُن الجِدالُ مُشْتَمْلًا عَلَى
النُّصْحِ والتَّوْجِيهِ وَبَيانِ الحَقِّ، إذا كان بالتي هِيَ أَحْسَنُ.
الخامسُ:
الحَسَدُ، فَإِنَّ الحَسُودَ مَرِيضٌ، مُعَذَّبٌ، يُعَذِّبُ نَفْسَه
بِانْشِغالِهِ في عِبادِ اللهِ، وَحُزْنِهِ عَلَى النِّعَمِ التي يَراهَا تَنْزِلُ
عَلَى إخْوانِهِ، وَتَمَنِّي زوالَها عَنْهُم. فَإِنَّ الحَسُودَ عَدُوُّ
النِّعْمَةِ. مُعْتَرِضٌ عَلَى تَقْدِيرِ اللهِ في ذلك، كَأَنَّه يَلُومُ رَبَّه
عَلَى ذلك، نَعُوذُ بِاللهِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً
عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ
عِبادَ
اللهِ: وَمِنْ أَسْبابِ الهَمِّ والحَزَنِ: عَدَمُ القَناعَةِ، فَإِنَّ عَدَمَ القَنَاعَةِ
سَبَبٌ لِلتَّنافُسِ فِي الدنيا وانْشِغالِ القَلْبِ بِها، يَقُولُ النبيُّ صلى
اللهُ عليه وسلم: ( أُنْظُرُوا إلى مَنْ هُوَ أسْفَلَ
مِنْكُم، ولا تَنْظُرُوا إلى مَنْ هُوَ فَوقَكم فإنَّه أَجْدَرُ أَنْ لا
تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيكُم ). كَثَيرٌ مِن الناسِ قَدْ حَمَّلُوا
أَنْفُسَهُم ما لَا يُطِيقُونَ وَأَثْقَلُوا كَوَاهِلَهُم بِالدُّيُونِ
والالْتِزاماتِ بِسَبَبِ النَّظَرِ إلى مَنْ هُمْ فَوْقَهُمْ فِي الْمَسْكَنِ والْمَرْكَبِ
والْمَلْبَس،ِ وَلَوْ أَنَّهُم قَنَعُوا بِمَا آتاهُم اللهُ، وعاشُوا عَلَى قَدْرِ
كِفايَتِهِمْ وَطاقَتِهِمْ لَكان خَيْرًا لَهُمْ، وَلَا يُعَدُّ ذلك عَيْبًا.
ثُمَّ اعْلَمُوا يا
عِبادَ اللهِ: أَنَّ الإيمانَ والعَمَلَ
الصالِحَ سَبَبٌ لِلحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَرَاحَةِ البالِ، وانْشِراحِ الصَّدْرِ،
والسعادةِ في الدنيا والآخرة. وَمِنْ ذلك: الإسْتِعاذَةُ مِمَّا اسْتَعاذَ
مِنْه النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم، قالَ أَنَسُ بْنُ مالِكٍ رضيَ اللهُ عَنْهُ:
كُنْتُ أَخْدِمُ النبيَّ صلى اللهُ عَلَيْه وسلم، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا
يَقُولُ: ( اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ
الهَمِّ والحَزَنِ وَالعَجْزِ والكَسَلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجالِ
).
اللَّهُمَّ
إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ الهَمِّ والحَزَنِ وَالعَجْزِ والكَسَلِ وَضَلَعِ
الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجالِ، اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ
وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، اللَّهُمَّ استعملنا في طاعتِك، وثَبِّتْنا على دينِك،
وارزقْنَا الإخلاصَ في أقوالِنا وأعمالِنا، وخَلِّصْنا من حقوقِ خلقِك، وباركْ لنا
في الحلالِ من رزقِك وتوفَّنَا مسلِمِين وألْحِقْنا بالصالحينَ، اللهُمَّ أصلحْ
أحوالَ المسلمينَ حُكَّاماً ومحكُومين، اللهُمَّ أنزلْ على المسلمينَ رحمةً
عامَّةً وهدايةً عامَّةً يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اجمعْ كلمةَ المسلمين
على كتابِك وسُنَّةِ نبيِّك محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، اللهُمَّ اجعلْ
كلمتَهم واحدةً ورايتَهم واحدةً واجعلْهُم يداً واحدةً وقوَّةً واحدةً على مَنْ
سِواهُم، ولا تجعلْ لأعدائِهم مِنَّةً عليهم يا قويُّ يا عزيزُ، اللهُمَّ احقِنْ
دماءَ المسلمينَ، اللهُمَّ ارحَمْ المستضعفينَ من المؤمنينَ، اللهُمَّ انصُرْهُم
وارفعِ البلاءَ عنهم في كلِّ مكانٍ، اللهُمَّ عليك بالكفرةِ والملحدينَ يَصُدُّون
عن دينِك ويقاتِلونَ عبادَك المؤمنين، اللهُمَّ عليك بهم فإنَّهم لا يعجزُونَك،
اللهُمَّ زَلْزلِ الأرضَ مْنْ تحتِ أقدامِهم، اللهُمَّ سَلِّطْ عليهم مَنْ يسومُهم
سُوءَ العذابِ يا قويُّ يا متينُ، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِمَّنْ يكيدُ لها،
وأَعِذْهَا من شرِّ الأشرارِ وكَيْدِ الفُجَّارِ، اللهُمَّ احفظْ لبلادِنا دينَها
وأمنَها وعِزَّتَها وعقيدتَها وسيادَتَها، وأصلحْ أهلَها وحُكَّامَها يا أرحمَ
الراحمينَ، اللهُمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ
منهم والأمواتِ ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدَّعَواتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|