الحِرْصُ على صلاحِ الذُّرِّيَّة
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها الناسُ: اتقُوا اللهَ تَعالَى، واعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَطالِبِ الْمُؤمِنين
الصادقين: الذُّرِّيَّةَ الصالِحةَ، التي تَكُونُ لَهُمْ ذُخْرًا في
الآخِرَةِ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ فِي الدنيا، وَسَبَبًا لِنُصْرَةِ هذا الدِّينِ
وَكَثْرَةِ أهْلِه. وَلَيْسَ هذا الْمَطْلَبُ عِنْدَهُمْ مُجَرَّدَ أُمْنِيَةٍ
يَتَمَنُّونَها بِألسِنَتِهِم وقُلُوبِهِم. وَإِنَّمَا هُوَ مَطْلَبٌ قَدْ
بَذَلُوا أَسْبابَه طِيلَةَ حَيَاتِهِم.
وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ هذِهِ الأَسْبَابِ:
الاجتِهادَ في الدعاءِ مِنْ أَجْلِ حُصُولِ الذُّرِّيَّةِ الصالِحَةِ قَبْلَ
وُجُودِها: قالَ تَعالَى عَنْ خَلِيلِهِ إبْراهيمَ عَلَيْهِ السلامُ: ﴿ رَبِّ هَبْ لي مِنَ الصالِحِين ﴾، وَقالَ تَعالَى
عَنْ نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السلامُ: ﴿ رَبِّ
هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَة ﴾. وَقالَ في وَصْفِ عِبادِ
الرحمنِ: ﴿ والذينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لنا مِنْ
أزواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُن ﴾.
ومِنْ الأسبابِ
أيضًا: اخْتِيارُ الزَّوْجَةِ الصالِحَةِ التي سَتَكونُ أُمًّا لِهذِهِ
الذُّرِّيَّة، وَمُعِينَةً لِزَوجِها عَلَى دِينِهِ وَعَلَى إصْلاحِ بَيْتِهِ،
لِقَوْلِ النَّبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( الدُّنْيا
مَتاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدنيا المَرْأَةُ الصالِحَةُ ). وَلِقَوْلِهِ: (
فَاظْفَرْ بِذاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ
).
وَمِن أسْبابِ
صَلَاحِ الذُّرِّيَّةِ: عِفَّةُ الأَبِ، وَأكْلُ الحَلَالِ، وَبِرُّ
الوَالِدَيْنِ، والإحسانُ إلى الخَلْقِ. فَإِنَّ ذلك يَنْعَكِسُ عَلَى ذُرِّيةِ
الإنسانِ. فَمَنْ عَفَّ عَفَّتْ نِساؤُهُ وذُرِّيَّتُه. وَمَنْ أَكَلَ الحَلالَ
الطَّيِّبَ أسَّسَ أَهْلَهُ وَذُرِّيَّتَه على الطَيِّباتِ، وَغَذَّاهُمْ بِها.
وَمَنْ بَرَّ والدَيْهِ بَرَّهُ أَوْلادُه. وَمَنْ أحسَنَ إلى الخَلْقِ خُصُوصًا
الأرامِلَ واليتامَى، أَحْسَنَ اللهُ إليهِ وحَفِظَ ذُرِّيَّتَهُ حالَ حَيَاتِهَ
وبَعْدَ مَوتِهَ، قالَ تعالى: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ
لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ
فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا ﴾. فَأَحْسِنُوا
رَحِمَكُم اللهُ إلى اليَتَامَى، والضُعَفاءِ والأرامِلَ، وأَبْشِرُوا بحفظِ اللهِ
لِذُرِّيَّاتِكُم مِن بَعْدِكُم، وَلَا تَخَافُوا عَلَيْهِمْ وَلَا تَحْزَنُوا.
وَمِنْ أسبابِ
صَلَاحِ الذُّرِّيَّةِ: الذِّكْرُ عِنْدَ الجِماعِ، لِقَوْلِ النبيِّ صلى
اللهُ عليه وسلم ( لَوْ أَنَّ أَحَدَكُم إذا أرادَ
أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قال: بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنا الشَّيْطانَ
وَجَنِّبِ الشيطانَ ما رَزَقتَنا، فَإِنَّه إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُما وَلَدٌ فِي
ذَلِك، لَمْ يَضُّرَّهُ شَيطانٌ أَبَدا ).
ومِنْ ذلكَ
أيضًا: أَدَاءُ شُكْرِ نِعْمَةِ الوَلَدِ بِذَبْحِ العَقِيقَةِ، قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( الْغُلَامُ
مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ وَيُسَمَّى
وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ ). فشَرَعَ اللهُ العَقيقَةَ لِكَيْ يَتِمَّ شُكْرُ
الوَالِدِ لِرَبِّهِ عَلَى إِنْعامِهِ لَه بِالْوَلَدِ، فَتَمَامُ الشُّكرِ
مَرْهُونٌ بِذَبْحِ العَقِيقَةِ. فَيَذْبَحُ عَنْ الغُلامِ شاتَيْنِ، وَعَنْ
الجارِيَةِ شاةً وَاحِدَةٌ.
ويُشْرَعُ
حَلْقُ الرَّأسِ أيضًا فِي اليَوْمِ السابِعِ، لَكِنَّه خاصُّ بِالغُلَامِ،
وَأَمَّا الجارِيَةُ فَلَا يُسَنُّ حَلْقُ رَأْسِها. وَحَلْقُ الرَّأْسِ لابُدَّ
فِيهِ مِن التَّعْمِيمِ، لِعُمُومِ النَّهْيِ عَن القَزَعِ، ( فَإِنَّ النبيَّ صلى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ نَهَى عَن
القَزَعِ ). والقَزَعُ: هو حَلْقُ بَعْضِ الرَّأسِ وَتَرْكُ بَعْضِهِ، كَمَا
يَفْعَلُهُ بَعْضُ الشبابِ. وَلَيْسَ النَّهْيُ خاصًّا بِالشَّبابِ الكِبارِ، بَلْ
هُوَ عامٌّ، لِأَنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم رَأَى صَبِيًّا قَدْ حُلِقَ
بَعْضُ رأسِهِ وَتُرِكَ بَعْضُه، فَنَهاهُم عَنْ ذلِكَ وقال: (احْلُقُوه كُلَّه، أَو اتْرُكُوه كُلَّه).
ويَنْبَغِي
للأبَوَين أنْ يَختارا الاِسْمَ الحَسَنَ لِلْمَوْلُودِ، لِأَنَّ الاسْمَ
عُنوانٌ لِهذا الْمَولودِ، ودَليلٌ عليهِ، سَوْفَ يُنادَى بِهِ طِيلَةَ حَياتِه،
فَلَا يَنْبَغِي لِلأبَوَينِ أنْ يَحْرِماهُ مِن هذِهِ الزِّينَةِ باختِيارِ اسْمٍ
لا يَليقُ. وإذا كانَ الاسْمُ الحَسَنُ الذي اختاراهُ لِلمَولودِ مُتَوافِقًا مَعَ
الأسماءِ التي اسْتَحَبّها رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أو مَعَ اسمِ نَبِيٍّ
مِنَ الأنبياءِ أو الصالحِين، زادَهُ حُسنًا، لِقَولِ النبيِّ صلى اللهُ عليه
وسلم: ( كانُوا يُسَمُّونَ بِأسْماءِ أَنْبِيائِهِم
والصالِحين قَبْلَهُم ).
وَمِنْ أسبابِ
صلاحِ الذُّرِّيَّةِ أيضًا: أَمْرُهُم بِالصلاةِ لِسَبعٍ وضَرْبُهُم عليها
لِعَشر، وَهذا مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبابِ وَأَساسُها.
باركَ
اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه
مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ
لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ
أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ
وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا
بَعدُ
عِبادَ الله:
تَذَكَّرُوا قَوْلَ النبيِّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: ( مَا
مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ،
أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ). فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى
عِظَمِ مَسْئُولِيَّةِ الوالِدَينِ تُجاهَ أولادِهِم، وأَنَّهُما الْمَسْئُولُ
الأَوَّلُ في تَرْبِيَةِ أَولادِهِم، وإيجادِ البِيئَةِ الصالِحِةِ لَهُم، والْمُحافَظَةِ
على فِطْرَتِهِم من الانحِراف، وأَنَّه ما مِن انْحِرافٍ إلا وسَبَبُه الأولُ
غالِبًا هُو الوالِدانِ، فَكُونُوا على حَذَرٍ، واعْلَمُوا
أَنَّ أولادَكُم عُنْوانُ بُيُوتِكُم ومُسْتَقْبَلُكُم بَعْدَ الله، وإياكُم
أَنْ تَتَنَصَّلُوا عن هذه الْمَسْئُولِيَّةِ، فإِنَّنا نَسْمَعُ في كثيرٍ من
المجالِسِ تَذَمُّرَ بَعْضِ الآباءِ مِن تَصَرُّفاتِ بَعْضِ الأولادِ والشبابِ
والفَتَياتِ، وفي نَفْسِ الوَقْتِ نَجِدُهُم مَعَ الأسفِ لا يَلُومُون أنفُسَهُم
ولا يَعْتَرِفُونَ بِتَقْصِيرِهِم، وإِنَّما يُلْقُونَ اللَّوْمَ على غَيْرِهِم،
وكأَنَّ الأمْرَ لا يَعْنِيهِم.
فاتقُوا اللهَ
أيُّها الْمُسلِمون، وكُونُوا قُدْوةً صالِحَةً لِأولادِكُم في أقوالِكُم
وأفعالِكُم، خُصُوصًا وأَنَّكُم في أَزْمِنَةِ الفِتَن، وأولادُنا - ذُكُورًا
وإناثًا - مستَهْدَفُون في عقيدَتِهِم، فاغْرِسُوا الإيمانَ في نُفُوسِهِم قَبْلَ
أنْ تَخْسَرُوهُم، وإياكُمْ والغَفْلَةَ عَنْهُم أو التخَلِّيَ عن مَسْئُوليةِ
إصْلاحِهِم، لأنَّهُم هُم الْمُسْتَقْبَلُ بَعْدَ الله، فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ
مُؤْمِنٍ أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ. وَتَفْكِيرُنا
وحِرْصُنا على مُسْتَقبَلِ أولادِنا، يَجِبُ أَنْ يَنْصَبَّ أولاً على إيمانِهِم،
قَبْلَ الدِّراسةِ والشهادةِ والوَظِيفَةِ. لأنَّ خَسارَةَ الإيمانِ خَسَارةٌ في
الدنيا والآخرةِ.
اللهم أَقِرَّ عُيُونَنا بِصَلاحِ أولادِنا
وشبابِ الْمُسْلِمِين، اللهم خُذْ بِأيدِهِم إلى الهُدى والصلاح، اللهم انصُرْ
بِهِم دِينَك، وأَعْلِ بِهِم كَلِمَتَك، وأغِظْ بِهِم أَعْداءَك يا ذا الجَلالِ والإِكْرام،
اللهُمَّ أصلحْ لنا دينَنَا الذي هو عِصْمَةُ أمرِنا، وأصلحْ لنا دُنْيانَا التي
فيها مَعَاشُنا، وأصلِحْ لنا آخِرَتَنا التي فيها مَعَادُنا، واجعل الدنيا زيادةً
لنا في كلِّ خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كلِّ شرٍّ، اللهُمَّ احفظْنا بالإسلامِ
قائمينَ واحفظْنا بالإسلامِ قاعدِين واحفظْنا بالإسلامِ راقدِين ولا تُشْمِتْ بنا
أعداءَ ولا حاسدينَ، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ المسلمينَ، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ
المسلمينَ حُكَّامَاً ومحكومين، اللهُمَّ ألِّفْ بين قلوبِ المؤمنين وأصلحْ ذاتَ
بينِهم واهدِهم سُبُلَ السلامِ وأخرجْهم من الظلماتِ إلى النورِ يا ذا الجلالِ
والإكرامِ، اللهُمَّ أرهم الحقَّ حقّاً وارزقْهم اتِّباعَه وأرِهم الباطلَ باطلاً
وارزقْهم اجتنابَه، اللهُمَّ احقِنْ دماءَ المسلمين، اللهُمَّ احقِنْ دماءَهم
وَوَلِّ عليهم خِيَارَهُم، واجعلْ وِلَايَتَهم فيمَنْ خافَك واتَّقَاك واتَّبَعَ
رضاك يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا من كَيدِ الكائدِين وعُدوانِ
الْمُعتدِين، اللهُمَّ أخرجْها من الفِتَنِ والشرورِ والآفاتِ، واجْعَلْها أقوى
مما كانت، وأمكنَ مما كانت، وأغنى مما كانت، وأَصْلَحَ مما كانت، اللهُمَّ أصلحْ
حُكَّامَها وأهلَها واجمعْ كلمتَهم وأَلِّفْ بين قلوبِهم واجْعَلْهم يداً واحدةً
على مَنْ عَداهُم يا قويُّ يا عزيزُ، اللهُمَّ اغفرْ للمسلمينَ والمسلماتِ
والمؤمنينَ والمؤمناتَ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، إنَّك سميعٌ قريبُ مُجِيْبُ
الدَّعَوَاتِ ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا : http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|