الْمخرجُ من الفتنِ ووحدةْ الصّف
إِنَّ الحَمدَ
للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا
وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ
فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ: اتقُوا اللهَ تعالَى،
وَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِن الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْها وَمَا بَطَنَ، كَمَا
أَمَرَكُم بِذلكَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم.
وَالفِتْنَةُ يَا عِبادَ اللهِ، كَلِمَةٌ مُشْتَرَكَةٌ، تُطْلَقُ عَلَى
مَعانٍ كَثِيرَةٍ، أَعْظَمُها الشِّرْكُ بِاللهِ. قالَ
تَعالَى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ ﴾.
وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الابْتِلاءِ
وَالامْتِحانِ، قالَ تَعالَى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً ﴾. وَتَقَعُ
أيْضًا عَلَى الْمَصائِبِ وَالعُقُوبَاتِ، قَالَ تَعالَى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوْا
مِنْكُمْ خَاصَّة ﴾، أَيْ أَنَّها تَعُمُّ وَلَا تَخُصُّ الظالِمِينَ
فَقَطْ.
وَيَدْخُلُ فِي ذلكَ مَا يَجْرِي
فِي بِلَادِ الإسلامِ، مِنْ فِتَنٍ تَتَعَلَّقُ بِأَمْنِها واجْتِماعِهَا،
وَتَخْتَلِفُ فِيها الآرَاءُ وَتَطِيشُ مَعَها العُقُولُ، وَتَنْتَشِرُ بِسَبَبِها
الْمَخَاوِفُ، وَتُسْفَكُ بِسَبَبِها الدِّماءُ. وَمِثْلُ هذِهِ الفِتَنُ
حَرَكَتُها سَرِيعَةٌ، وَيَغْتَرُّ بِها الكَثِيرُ، لِأَنَّ الإنسانَ مِنْ
طَبْعِهِ الاسْتِعْجالُ فِي الحُكْمِ وَعَدَمُ التَّرَوِّي. وَلِذلكَ نَجِدُ
الشارِعَ الحَكِيمَ يِأْمُرُنَا دَائِمًا بِاجْتِنَابِها وَعَدَمِ اسْتِشْرافِها
أَوْ التَّصَدِّي لَها. يَقُولُ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( سَتَكُونُ فِتَنٌ، القاعِدُ فِيها خَيْرٌ مِن القائِمِ،
وَالقائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِن الْماشِي، والْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِن الساعِي،
مَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا
فَلْيَعُذْ بِهِ ). وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ( مَنْ
يُشْرِفْ لَها تَسْتَشْرِفْهُ )، أَيْ: مَنْ يَتَعَرَّضُ لَهَا، أَوْ
يَتَصَدَّى لَها، وَيَخُوضُ فِيها، فَإِنَّها تُقَابِلُهُ بِشَرِّها وَقَدْ
تُهْلِكُهُ، وَأَنَّ مَنْ يُعْرِضُ عَنْها تُعْرِضُ عَنْهُ.
وَلِذَلِكَ يُشْرَعُ لِلْمسلِمِ أَنْ يَعْرِفَ مَوْقِفَهُ عِنْدَ
حُلُولِ مِثْلِ هذِهِ الفِتَنِ.
وَأَوَّلُ ذَلِكَ:
أَنْ يَلْزَمَ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رسولِهِ صلى
اللهُ عليه وسلم، وَدَلَّتْ الأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّه كُلَّمَا زادَ
الاخْتِلافُ وَكَثُرَتْ الفِتَنُ، صارَ التَّمَسُّكُ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ آكَدَ
وأَكْثَرَ، وَهَذا مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ حَدِيثُ العِرْباضِ بْنِ سارِيَةَ رضيَ
اللهُ عَنْه، وَفِيهِ: ( فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ
مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ
الخُلَفَاءِ الراشِدِينَ المَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا
وَعَضُّوا عَلَيْها بِالنَّواجِذِ ). فَأَيْنَ الاشْتِغالُ بِالقُرْآن مَعَ
هذِهِ الفِتَنِ؟ وَأَيْنَ الاشْتِغالُ بِالسُّنَّةِ وَمَا كانَ عَلَيْهِ
الصَّحابَةُ، خُصُوصًا لَدَى الدُّعاةِ والناصِحِينَ وَالمُصْلِحِينَ؟!!!
الثَّانِي: الإسْتِعاذَةُ بِاللهِ مِن الفِتَنِ، وَالدُّعاءُ بِالسَّلامَةِ
والنَّجاةِ وَمُوافَقَةِ الحَقِّ، وَالإِقْبالُ عَلَى العِبادَةِ، قالَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ( العِبادَةُ فِي
الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ )، وَفِي رِوَايَةٍ: ( العِبَادَةُ فِي الفِتْنَةِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ).
الثَّالِثُ:
عَدَمُ الاسْتِقْلَالِيَّةِ فِي اتِّخاذِ الْمَوْقِفِ
الشَّرْعِيِّ، حَتَّى لَوْ كُنْتَ طَالِبَ عِلْمٍ، والحِرْصُ عَلَى لُزُومِ
مَنْهَجِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي ذلِكَ، أَلَا وَهُوَ الرُّجُوعُ إلَى وُلَاِةِ
الأَمْرِ وَأَهْلِ العِلْمِ، كَيْ لَا تَفْتَرِقَ الكَلِمَةُ وَلَا يَكُونَ
لِلْمُشَغِّبِينَ وَالْمُتَعَجِّلِينَ وَالْمُنافِقِينَ والحِزْبِيِّينَ
وَأَصْحابِ الأَغْراضِ الفاسِدَةِ والنَّوايَا الخَبِيثَةِ والْمُرْتَزِقَةِ
مَدْخَلٌ فِي صُفُوفِ الْمُسْلِمين، قال تَعالَى: ﴿ وَإِذَا
جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ
إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾. هذا هُوَ الواجِبُ يا عِبادَ اللهِ عِنْدَ الفِتَنِ والْمَخاوُفِ
والحُرُوبِ والأُمُورِ العامَّةِ، هُوَ التَّثَبُّتُ
وَعَدَمُ الاسْتِماعِ لِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ، وَعَدَمُ الاسْتِعْجالِ، وَعَدَمُ
الخَوْضِ وَكَثْرَةِ الكَلامِ، وَرَدُّ الأُمُورِ إلى أَهْلِها، وَهُمْ وُلاةُ
الأَمْرِ وأَهْلُ العِلْمِ، فإنَّكُمْ إنْ فَعَلْتُمْ ذلك صارَت عاقِبَةُ
أَمْرِكُم حَمِيدَةً، وَسَلِمْتُمْ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُورِ، وَاتَّفَقَتْ
كَلِمَتُكُم.
فَإِنَّ
وِحْدَةَ الصَّفِّ واجْتِماعَ الكَلِمَةِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ كَلامٍ إِنْشائِيٍّ
يُقالُ في الْمُناسَباتِ والْمَحافِلِ فَقَطْ، بَلْ هِيَ عَقِيدَةٌ ومَنْهَجٌ،
تَظْهَرُ وَقْتَ الفِتَنِ وَاخْتِلافِ الأَحْوالِ، وَوُجُودِ مَنْ يُشِيعُ
الفَوْضَى.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عِبادَ اللهِ:
الرابِعُ: عَدَمُ الغُلُوِّ فِي مُتابَعَةِ
الأخْبَارِ وَتَلَقِّيها، لِمَا تُسَبِّبُهُ لِلْقَلْبِ مِنْ قَسْوَةٍ،
وَلِأَنَّها تُشْغِلُهُ وَتَمْلَؤُهُ خَوْفًا وَرُعْبًا وَشُكُوكًا وَظُنُونًا
سَيِّئَةً، وَتُضْعِفُ جانِبَ التَّوَكُّلِ لَدَيْهِ. وَلَا بَأْسَ
لِلشَّخْصِ أَنْ يَتَحَرَّى الخَبَرَ الصادِقَ وَلَكِن لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ
قَنَوَاتُ الأخْبارِ وَبَرامِجُها شُغْلَهُ الشاغِلَ، وَلِأَنَّها تُنافِي
الأَدِلَّةَ الوَارِدَةَ فِي اجْتِنابِ الفِتَنِ واعْتِزالِها. وَأَعْظَمُ مِنْ
هذَا أَنَّها تُثِيرُ النُّفُوسَ وَتَحُثُّها عَلَى الْمُشارَكَةِ فِي الفِتَنِ
وَالوُقُوعِ فِيها، وَلِأَنَّها تَنْقُلُ العَبْدَ مِنْ التَّمَسُّكِ بِالمَوْقِفِ
الشَّرْعِي، إلى الْمَوْقِفِ العاطِفِي أَوْ الحَمَاسِيِّ غَيْرِ الْمُنْضَبِطِ.
فَمَا
أَكْثَرَ الذينَ يَخُوضُونَ وَيتَكَلَّمُونَ في الفِتَنِ، ثَمَّ إذا انْتَهَتْ
نَدِمُوا عَلَى ما قَالُوا، أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى جادَّةٍ. قال
الحَسَنُ البَصْرِيُّ: ( الفِتْنَةُ إذا أَقْبَلَتْ
عَرَفَها كُلُّ عالِمٍ، وإذا أَدْبَرَتْ عَرَفَها كُلُّ جاهِلٍ ).
وَعَلَيْكُمْ أَيَّها الْمُسْلِمُونَ بِالدُّعاءِ لِلْمُسْلِمِينَ عُمُومًا، وَلِوُلاتِنَا عَلَى
وَجْهِ الخُصُوصِ، بِأَنْ يُوَفِّقَهُمْ اللهُ، وَيَنْصُرَهُمْ وَيُبَصِّرَهُمْ
وَيَجْمَعَ كَلِمَةَ الناسِ عَلَيْهِمْ، وَيَنْصُرَ بِهِمْ دِينَهُ، وَيُعْلِيَ
بِهْمْ كَلِمَتَه، وَيُغِيضَ بِهِمْ أَعْداءَه. قال الفُضَيْلُ بنُ عِياضٍ
رحمه اللهُ: ( لَوْ كانَتْ لِي دَعْوَةٌ ما
جَعَلْتُها إلَّا في السُّلْطانِ ) ، وَقال أحمدُ رحمه الله: ( إنِّي لَأَدْعُوا لَهُ بِالتَّسْدِيدِ والتَّوْفِيقِ في
اللَّيْلِ والنَّهارِ، وأَرَى ذلكَ وَاجِبًا عَلَيَّ ).
اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا بِالقَوْلِ الثابِتِ في الحَياةِ الدُّنْيا وفي
الآخِرَةِ، وأَعِذْنَا مِن الفِتَنِ ما ظَهَرَ مِنْها وَمَا بَطَنَ، اللهُمَّ أصلحْ قلوبنَا وأعمالَنا
وأحوالَنا، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ المسلمين، اللهُمَّ اجمعْ كلمةَ المسلمينَ على
كتابِك وسُنَّةِ نبيِّك محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، اللهم اجعلْ كلمتَهم
واحدةً ورايتَهم واحدةً واجعلْهم يداً واحدةً وقوَّةً واحدةً على مَن سواهم، ولا
تجعلْ لأعدائهم مِنَّةً عليهم يا قويُّ يا عزيزُ، اللهم عليكَ بالكفرةِ والملحدين
الذين يصدُّون عن دينِك ويقاتلون عبادَك المؤمنين ، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجزونك،
اللهم زَلْزِل الأرضَ من تحت أقدامِهم، اللهم سلِّطْ عليهم منْ يسومُهم سوءَ
العذابِ يا قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ
بلادَنا من كيدِ الكائدين وعدوانِ المعتدين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مما يكيدُ
لها، وانصرها على أعدائِها في داخِلِها وخارجِها، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أمرِنا
بتوفيقِك، وأيِّدْهم بتأييدِك، واجعلهم من أنصارِ دينِك، وارزقْهُم البطانةَ
الصالحةَ الناصحةَ يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغفرْ للمسلمين والمسلماتِ
والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ
أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا : http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|