اَلْدَّلِيْلُ عَلَىْ اَلْمُدَبِّرِ اَلْجَلِيْلِ
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ
فَهَدَى، وَأَسْعَدَ وَأَشْقَى، وَأَضَلَّ بِحِكْمَتِهِ وَهَدَى، وَمَنَعَ وَأَعْطَى،
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى، وَالرَّسُولُ
الْمُجْتَبَى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَبِهِ اقْتَدَى.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا
عِبَادَ اللهِ:
تَقْوَى اللهِ عَزَّ
وَجَلَّ وَصِيَّتُهُ لِعِبَادِهِ، أَمَرَ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَحَثَّ عَلَيْهَا
نَبِيُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُنَّتِهِ، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾، وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ
بْنِ سَارِيَةَ: ((أُوصِيكُمْ
بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ))، فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ.
وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ
اللهُ ؛ بِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ الْمُدَبِّرُ لِكَوْنِهِ، وَالْمُتَصَرِّفُ
فِي شُؤُونِ مُلْكِهِ وَعِبَادِهِ، وَهَذَا أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدِهِ
وَإِفْرَادِهِ بِعِبَادَتِهِ، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾، فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَا عِبَادَ اللهِ، وَلَا
مَعْبُودَ بِحَقٍّ سِوَاهُ، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا
فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لَا يُسْأَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾،
يَقُولُ ابْنُ سِعْدِيٍّ فِي تَفْسِيرِهِ: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا﴾ أَيْ: فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴿آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ فِي ذَاتِهِمَا، وَفَسَدَ مَنْ فِيهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ.
إِلَى أَنْ قَالَ رَحِمَهُ
اللهُ: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُدَبِّرَهُ وَاحِدٌ، وَرَبَّهُ وَاحِدٌ، وَإِلَهَهُ
وَاحِدٌ، فَلَوْ كَانَ لَهُ مُدَبِّرَانِ وَرَبَّانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، لَاخْتَلَّ
نِظَامُهُ، وَتَقَوَّضَتْ أَرْكَانُهُ.
فَيَا
عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَهُ
أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ
وَفِـــــيْ
كُلِّ شَـــــيْءٍ لـــــــهُ آيَةٌ
تَدُلُّ عَـــــــلَىْ أَنَّهُ وَاْحِــــــــــــــــــدُ
وَلِلَّهِ
فِي كُـــــــــــــــــــلِّ تَحْــريكَةٍ
وَتَسْكِــــــينَةٍ
أَبَدًا شَــــــــــاهِدُ
سُئِلَ أَعْرَابِيٌّ:
بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: الْأَثَرُ يَدُلُّ عَلَى الْمَسِيرِ، وَالْبَعْرَةُ
تَدُلُّ عَلَى الْبَعِيرِ، فَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ، وَبِحَارٌ
ذَاتُ أَمْوَاجٍ؛ أَلَا تَدُلُّ عَلَى السَّمِيعِ الْبَصِيرِ؟
فَاللهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى يَتَصَرَّفُ وَحْدَهُ بِهَذَا الْكَوْنِ، يُدَبِّرُ أَمْرَهُ، وَيُدِيرُ
شُؤُونَهُ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ
أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ:
فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ
نُعَانِي مِنْ شِدَّةِ بَرْدِ الشِّتَاءِ، كَمَا كُنَّا نُعَانِي مِنْ حَرَارَةِ
الصَّيْفِ قَبْلَ أَيَّامٍ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ اللهِ عَزَّ
وَجَلَّ وَقُدْرَتِهِ، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، لِأُولِي
الْأَلْبَابِ، أَيْ: أَصْحَابِ الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ السَّلِيمَةِ، فَفِي شِدَّةِ
الْبَرْدِ مَوْعِظَةٌ وَعِبْرَةٌ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ:
يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ،
وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ. فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ
مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ)). فَهَذِهِ فَائِدَةٌ مِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْبَرْدِ، لِكَيْ نَتَذَكَّرَ
عَظَمَةَ اَللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَقُدْرَتَهُ سُبْحَاْنَهُ ، لِكَيْ نَتَذَكَّرَ تِلْكَ
النَّارَ، نَتَذَكَّرُهَا وَنَحْنُ نُحِسُّ بِنَفَسٍ مِنْ أَنْفَاسِهَا، فَإِذَا كَانَ
هَذَا الْبَرْدُ الَّذِي نُحِسُّ بِهِ، مُجَرَّدَ نَفَسٍ مِنْ أَنْفَاسِ النَّارِ؛
فَكَيْفَ بِاللهِ عَلَيْكُمْ بِمَا وَرَاءَهُ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ
اللهِ، جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ بِاللهِ بِتَوْحِيدِه بِأَفْعَالِهِ، وَإِفْرَادِهِ
بِأَفْعَالِكُمْ، وَالْإِيمَانِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَهُوَ الْوَاحِدُ فِي
الرُّبُوبِيَّةِ، هُوَ الْوَاحِدُ فِي الْإِلَهِيَّةِ، هُوَ الْوَاحِدُ فِي الْأَسْمَاءِ
وَالصِّفَاتِ كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ ﴾.
بَارَكَ اللهُ لِي
وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ
الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ
لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى
إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ،
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا
كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا
عِبَادَ اللهِ:
وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا
الْبَرْدِ الَّذِي نُحِسُّ بِهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَنَحْنُ نَتَقَلَّبُ فِي
نِعَمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، تَذَكُّرُ أَحْوَالِ إِخْوَانِنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فِي خَارِجِ هَذِهِ الْبِلَادِ، فَإِذَا كُنَّا نَلْبَسُ مَا نُرِيدُ، فَإِنَّ هُنَاكَ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ لَا يَجِدُ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، فَضْلًا عَمَّا يُدْفِئُ
جَسَدَهُ، غِطَاؤُهُ نُجُومُ السَّمَاءِ، وَفِرَاشُهُ ثَرَى الْأَرْضِ، وَقَدْ لَا
يَكُونُ فِي مَأْمَنٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. فَيُذَكِّرُنَا هَذَا الْبَرْدُ
بِوَاجِبٍ عَظِيمٍ، أَلَا وَهُوَ: شُكْرُ الْمُنْعِمِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا نَنْعَمُ
بِهِ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾، وَالشُّكْرُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ كَمَا
قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿اعْمَلُوا
آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾.
أَسْأَلُ اللهَ عَزَّ
وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَنِي وَإِيَّاكُمْ مِنْ عِبَادِهِ الشَّاكِرِينَ، اللَّهُمَّ
اجْعَلْنَا لَكَ شَكَّارِينَ، لَكَ أَوَّابِينَ، إِلَيْكَ مُنِيبِينَ، وَمِنْكَ وَحْدَكَ
طَالِبِينَ. اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.
اللَّهُمَّ أَحْيِنَا سُعَدَاءَ، وَتَوَفَّنَا شُهَدَاءَ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ
الْأَتْقِيَاءِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رِضَاكَ وَالْجَنَّةَ،
وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ وَالنَّارِ، اللَّهُمَّ اعْتِقْ رِقَابَنَا مِنَ النَّارِ،
وَرِقَابَ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ
مَوْتَانَا، وَاشْفَ مَرْضَانَا، وَعَافِ مُبْتَلَانَا، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ
الرَّاحِمِينَ.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.
عِبَادَ اللهِ:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ
ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ
اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا
وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا
تَفْعَلُونَ﴾. وَأَقِمْ اَلْصَّلَاْةَ.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبيد الطوياوي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=120 |