الإشاعةُ وقصةُ الطفيلِ بنِ عمرٍو الدَّوْسِي رضي الله عنه
إِنَّ
الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ
شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا
مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد،
عبادَ
الله: اتَّقُوا اللهَ تَعالى، واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ إذا حَرَّمَ شيْئًا، حَرَّمَ
الوَسائِلَ المُوْصِلَةَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا مَنَعَ الشِّرْكَ: سَدَّ الذَرَائِعَ
الْمُوصِلَةَ إِلَيْه، فَمَنَعَ مِن اتِّخاذِ القُبُورِ مَساجِدَ، أَوْ البِناءِ
عَلَيْها أَوْ إِسْراجِها، وَلَمَّا حَرَّمَ الزِّنا، مَنَعَ مِن الوُقُوعِ فِيمَا
يُثِيرُ شَهْوَةَ الإنسانِ، كالنَّظَرِ الحَرامِ، أو الخَلْوَةِ بالأجْنَبِيَّةِ،
أو السَّماعِ الْمُحَرَّمِ. ولَمَّا حَرَّمَ الرِّبا حَرَّمَ الصُّوَرَ الْمُفْضِيَةَ
إِلَيْهِ كَبَيْعِ العِينَةِ وَغَيْرِه.
وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الطُّرُقِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى انْتِشارِ
الفَوْضَى واضْطِرابِ الأُمُورِ: بثَّ الشائِعاتِ المُخْتَلِفَةِ
والافْتِراءَاتِ الآثِمَةِ، خاصَّةَ فِي أَوْقاتِ الأَزَمَاتِ والفِتَنِ، حِينَما
تَكُونُ الأُمَّةُ في أمَسِّ الحاجَةِ إلى تَوْحِيدِ الكَلِمَةِ واتِّحادِ
الصَّفِّ وَضَبْطِ الأَمْنِ.
عِبادَ اللهِ: إِنَّ تاريخَ الإِشاعةِ قَدِيمٌ
قِدَمَ هذا الإنسانِ، وَقَدْ ذُكِرَت في كِتابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَبِقِراءَةِ قَصَصِ الأنبياءِ عَلَيْهِم السلامُ، نَجِدُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُم
قَدْ أُثِيرَ حَوْلَهُ الكَثِيرُ مِن الإشاعاتِ مِنْ قِبَلِ قَوْمِهِ، والتي كانَ
لَها الأَثَرُ في جَعْلِ بَعْضِ الْمُعَوِّقاتِ في طريقِ دَعْوَةِ أَولَئِكَ
الأنبياءِ والرُّسُلِ. وكذلك عائقاً في طريقِ دعوةِ وَرَثَةِ الأنبياءِ مِن
العُلَماءِ، فَكَمْ نَسْمَعُ مِن اتِّهامِ العُلَماءِ بِالعَمَالَةِ، أَوْ
المُداهَنَةِ، أَوْ عَدَمِ مَعْرِفَةِ ما يَجْرِي في الساحَةِ، أو نَقْصِ
التَصَوُّرِ لِمَا يَحْدُثُ في واقِعِ الأُمَّةِ.
وَانْظُرُوا إلى مَدَى تَأْثِيرِها فِي نُفُوسِ الناسِ خُصوصًا
الشبابَ الذين هُم عِمادُ الأُمَّةِ. فَكَمْ مِنْ شابٍّ وَقَعَ في
الغُلُوِّ والتكفيرِ بِسَبَبِ انْعِزالِهِ عن العُلَماءِ، أو في البِدَعِ أو
الحِزْبِيَّةِ، نَتِيجَةَ ما يَسْمَعُ مِن التَّهْوِينِ مِنْ شَأْنِ العُلَماءِ،
أَوْ ما يُشاعُ حَوْلَهُم. ومِنْ أَخْطَرِ أُمُورِ الإشاعَةِ، ما يَكُونُ في حَقِّ
وُلاةِ الأَمْرِ، والسَّعْيِ في تَشْوِيهِ سُمْعَتِهِمْ، مِمَّا يُسَبِّبُ إيغارَ
الصُّدُورِ عَلَيْهِم، وتَعْبِئَةَ الناسِ عَلَيْهِمْ، وهذا مِنْ أَفْسَدِ ما
يَكُونُ في أَمْرِ الإشاعَةِ، وهُو سِلاحُ الْمُفْسِدِينِ، وأَعْداءِ الجماعَةِ
وَوِحْدَةِ الصَّفِّ. ولَهُ رَواجٌ، لأَنَّه يُزَخْرَفُ لِلناسِ باسْمِ الغَيْرَةِ
ومَحَبَّةِ الوَطَنِ.
إِنَّ الإشاعةَ مَرَضٌ خَطِيرٌ، وَعَدُوٌّ لَدُودٌ لا
يَنْجُو مِنْه إلا مَنْ هُوَ عاقِلٌ رَزِينٌ مُتَسَلِّحٌ بالتَّقْوَى، ولا
يَتَأَثَّرُ بِكُلِّ ما يَسْمَعُ.
وبِهذِه المُناسَبَةِ، يَحْسُنُ أَنْ نَسُوقَ قِصَّةً لِصَحابِيٍّ جَلِيلٍ
كادَتْ الإشاعةُ تَصُدُّهُ عن الهِدايَةِ لِلإسلامِ، لَوْلا أَنَّ اللهَ رَزَقَهُ
عَقْلاً يَعْرِفُ كَيْفَ يَزِنُ بِهِ الأُمُورَ بِمِيزانِ العَدْلِ والتَثَبُّتِ. ألا وَهُوُ الطُّفَيْلُ بنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ:
حَيْثُ كان سَيِّدًا مُطاعًا فِي قَوْمِهِ، فِي أَرْضِ دَوْسٍ وشاعِرًا نابِغَةً،
ذَاعَ صِيتُهُ بَيْنَ العَرَبِ، فَلَمَّا أرادَ زيارةَ مَكةَ، خَشِيَ كفارُ قُريشٍ
أَنْ يَتَأَثَّرَ بِدَعْوَةِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، فاسْتَقْبَلُوهُ
وأَشاعُوا بِأَنَّ محمداً ساحِرٌ وَكاهِنٌ وشاعِرٌ، وَأَنَّه فَرَّقَ بَيْنَ
الوالِدِ وَوَلَدِهِ والمَرْأَةِ وزَوْجِها، وطَلَبُوا مِنْه إذا طافَ بالبَيْتِ
أَنْ يَضَعَ في أُذُنِهِ القُطْنَ حَتَّى لا يَسْمَعَ القُرْآنَ. فَفَعَلَ في
أَوَّلِ الأَمْرِ، ثُمَّ وَقَفَ مَعَ نَفْسِهِ وَقْفَةَ الرَّجُلِ العاقِلِ
المُنْصِفِ فقال: (إِنِّي رَجُلٌ لَبِيبٌ شاعِر!!! وَأَعْرِفُ الفَرْقَ بَيْنَ
الكلامِ الحَسَنِ والكلامِ القَبِيحِ، فَلِماذا لا أَسْتَمِعُ إلى قَوْلِه؟)
فَجَاءَ البَيْتَ لِيَطُوفَ، وَسَمِعَ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ وَهُوَ
يَقْرَأُ القُرآنَ، فَأَعْجَبَه ذلك. ثُمَّ تَبِعَ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم
إلى مَنْزِلِهِ، وقال: ( يا محمد: إِنَّ قَوْمَكَ حَدَّثُونِي بِكَذا وكَذا، فَمَا
بَرِحُوا يُخَوِّفُونَنِي حتى وَضَعْتُ فِي أُذُنِي القُطْنَ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ
قَوْلَكَ، فَاعْرِضْ عَلَيَّ أَمْرَكَ ) فَعَرَضَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم
عَلَيْهِ الإسلامَ وَقَرَأَ عَلَيْهِ القُرْآنَ، فَأَسْلَمَ الطُّفَيْلُ. ثُمَّ
رَجَعَ إلى أَرْضِ دَوْسٍ يَدْعُوهُم إلى التوحيدِ، فَأَسْلَمَ أَهْلُ بَيْتِهِ،
وَأَسْلَمَ مِنْ عَشِيرَتِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَطْ، وأَمَّا البَقِيَّةُ فَقَدْ
عادَوْهُ وَخَذَلُوهُ، حَتَى نَفِدَ صَبْرُه مَعَهُم، فَرَكِبَ راحِلَتَه وعادَ
إلى الرسولِ صلى اللهُ عليه وسلم يَشْكُو إِلَيْه، وكان مِمَّا قال: ( إِنَّ
دَوْسًا عَصَتْ وأَبَتْ، فَادْعُ اللهَ عَلَيْها ). وكانَتْ الْمُفاجَأَةُ التي
أَذْهَلَتْ الطُّفَيْلَ، أَنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم، رَفَعَ يَدَيْهِ
وقال: ( اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْساً وَأْتِ بِهِمْ ) ثُمَّ قال لِلطُّفَيْلِ: (
ارْجِعْ إلى قَوْمِكَ فادْعُهُمْ وارْفُقْ بِهِم )، فَنَهَضَ وعادَ إلى قَوْمِهِ
يَدْعُوهُمْ بِأَناةٍ وَرِفْقٍ، فَجاءُوْا بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ مُسْلِمِين.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ
وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ
مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً
كثيراً . أَمّا بَعدُ
عِبادَ
الله: إِنَّ مَنْ يَسْلُكُ مَنْهَجَ القُرآنِ والسُّنَّةِ عِنْدَ تَلَقِّي
الأخبارِ والشائِعاتِ، سَوْفَ يَسْلَمُ مِنْ الإِثْمِ والوُقُوعِ في التُّهَمِ
الباطِلَةِ، وَيَجِدُ ثَوابَ ذلك أَيْضًا في الدنيا والآخرة.
انْظُرُوا إلى الطُّفَيْلِ رضي اللهُ عَنْهُ كَيْفَ هداه اللهُ إلى
الإسلامِ بِسَبَبِ ذلك، بَلْ هَدَى اللهُ قَوْمَه أَيْضًا بِسَبَبِ تَثَبُّتِهِ
وعَدَمِ انْسِياقِهِ لِكُلِّ ما يُقالُ فَجاءُوا إلى المَدِينَةِ مُهاجِرِين،
ونَاُلوا شَرَفَ الهِجْرَةِ والصُّحْبَةِ.
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تَعالَى: ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ
تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )،
وَقَوْلَه صلى اللهُ عليه وسلم: ( كَفَى بِالمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ
بِكُلِّ ما سَمِعَ ).
اللهمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأَخْلاقِ، لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها
إلا أَنْتَ، واصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَها لا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَها إلا أَنْتَ، اللهم
أَلِّفْ بينَ قُلُوبِنا وأصلِحْ ذاتَ بينِنا واهدنا سُبُلَ السلام، ونَجَّنا من
الظُّلُماتِ إلى النُّور يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو
عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا،
واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر،
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليّها
ومولاها، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً
وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل
ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة
نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل
لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان
المعتدين، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وأمنها
وعزتها وعقيدتها وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ( وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|