عبودية
الركوع
الحمد
لله الذي مَنّ علينا بالإسلام ، ونوّر صدُورنا بالإيمان ، وزيّنه في قلوبِنا ، وكرّه
إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، أحمدُهُ سبحانه على عظيم الفضل والامتنان ، وأشكرُهُ
وأثني عليه الخير كله على نعمة الركوع والسجود والقرآن ، فوالله لولا الله ما
اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا ولا ركعنا ولا سجدنا .
أشهد
أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، خير من صلى
وسجد وقام ، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه ، وأصحابه الكرام ، وسلم تسليماً ..
((
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ
الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون )) (( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون )) .. أما بعد :
عبودية جليلة
من أخص عبوديات التعظيم والإجلال والخضوع، إنها عبادة الركوع.
عبادةٌ أحبها
الصالحون، وتلذذ بها العابدون، وذاق طعمها الخاشعون، فكانت سمة ووصفاً لهم، كما وصف
الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابَه فقال: ((تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا
سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا))
عبادة يحبها
الله تعالى، لذا يأمر بها عباده ويجعلها من أسباب الفلاح: ((يَٰٓأَيُّهَا
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ
وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ)) ويأمرنا تعالى أن ننضم إلى
جماعات الراكعين فيقول: ((واركعوا مع الراكعين)) أي: كونوا مع المؤمنين في أحسن
أعمالهم وأحوالهم: الصلاة والركوع.
خص الله الركوع
والسجود بالذكر من بين أركان الصلاة، فسمى الصلاة بهما، لفضلهما وشريف مقامهما ولدلالتهما
على غاية الخضوع لله الذي هو سر الصلاةِ كلِّها، فَسِرُّها تعظيمُ الله جل وعلا وتكبيرُهُ
والخضوعُ له، لذا كان افتتاحُها وشعارُها ذكرَ التعظيم (التكبير).
أيها
الناس: الركوع ذو شأنٍ عظيم:
هو ركن في كل
ركعة من الصلاة.
ويُعْرَف قدر
كل صلاة بعدد الركوعات فيها.
ولا تُدْرَك
الركعةُ إلا بإدراك ركوعها.
ولا يُدْرِك
المرءُ الجماعة، ولا الصلاة في وقتها، ولا الجمعة إلا بإدراك ركعة على الأقل منها.
قال رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ
الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ) متفق عليه
يركع المسلم في
يومه وليلته سبعة عشر ركوعاً فريضةً عليه من الله، في صلواته الخمس.
ويزيد
المطَّوعون من المؤمنين، اثني عشر ركوعاً في السنن الرواتب.
ويتفاوت
المؤمنون ويتنافسون فيما فوق ذلك، حتى جاء عن بعض السلف والصالحين أنه كان يصلي في
اليوم والليلة مئةَ ركعة، وأكثر من ذلك.
ركوع متكررٌ
لله بالأجساد، وتعظيم لله بالألسن، فما نصيب القلوب والأرواح من ذوق حلاوة الركوع؟.
لقد كان نبينا
صلى الله عليه وسلم يجد قرة عينه في الصلاة، فكان يطيلها لنفسه، ويطيل فيها الركوع
حتى يكون نحواً من قيامه، وقد قام ليلةً في ركعةٍ بخمسة أجزاء، وركع نحواً من هذا
القيام.
وكان الصالحون
من السلف يفعلون مثل ذلك وأكثر.
يقول أحدهم: ما
رأيت شعبة بن عياش ركع قط إلا ظننت أنه نسي.
وهذه الإطالة لا
تكون إلا مع أنسٍ ولذة وذوقِ حلاوة.
سر
الركوع عباد الله هو تعظيم الله جل جلاله والخضوع لعظمته،
بالبدن واللسان والقلب.
ــ فتعظيم البدن: يكون بثني الصلب له سبحانه، ووضع
القامة، وتنكيس الرأس، وحني الظهر له وبين يديه إلى جهة بيته العتيق.
ــ وتعظيم اللسان: يكون
بالتكبير عند الانحناء أولاً، ثم بأذكار التعظيم الواردة، والواجب منها قول:
(سبحان ربي العظيم)، وما سواه مما ورد مستحب، قال صلى الله عليه وسلم: (أما الركوع
فعظموا فيه الرب) مسلم
ــ وتعظيم القلب: يكون
باستشعار القلب العظمة الربانية، واستحقاق الرب العظيم للخضوع له، والاستكانة بين
يديه، واستحضار ركوع القلب وأجزاء الجسد كلها .. وتصاغر الراكع عند نفسه، وشهودُهُ
فقْرَهُ وعبوديتَه لله، مع قول الذكر الوارد المعزز لهذا الاستشعار: (اللهم لك ركعت،
وبك آمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت، أنت ربي، خشع لك سمعي، وبصري، [ودمي، ولحمي]،
ومخي، وعظمي، وعصبي، وما استقلت به قدمي لله رب العالمين) صحيح أخرجه النسائي
وأحمد وابن حبان.
فيستشعر الراكع
ركوع ذلك كله منه خشوعها وخضوعها.
اللهم
ارزقنا الخشوع، وحبب إلينا السجود والركوع، بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة
ونفعني وإياكم بما فيهما من المواعظ والحكمة ، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور
الرحيم .
الخطبة
الثانية
الْحمدُ
للهِ ربِّ العالَمِينَ الرّحمنِ الرّحيمِ مَالكِّ يَومَ الدِّينِ، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له الحق المبين، وأشهد أنَّ محمدًا خاتم النبيّين وأفضل
المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم
الدين . أما بعد:
عباد الله:
الركوع ركن في الصلاة، لا تصح الصلاة إلا بالإتيان به على الصفة الصحيحة المجزئة.
ألا
فلتعلموا رحمكم الله أن القدر المجزئ في الركوع: أن ينحني المصلي
بجذعه انحناءً يكون فيه إلى الركوع أقرب منه إلى القيام، بحيث من يراه يقول إنه
راكع وليس واقف، وتصل يداه إلى ركبتيه.
مع الطمأنينة
والسكون في هذه الحال، بأن تسكن جوارحه حال الركوع زمنا يمكنه أن يقول فيه: (سبحان
ربي العظيم) مرة واحدة.
أما الصفة
الكاملة المستحبة للركوع:
فهي أن يحني ظهره انحناءً يكون فيه ظهره مع جذعه
الأسفل كالزاوية القائمة.
ويمدُ ظهره ويبسطه
ويسويه ولا يجعله متقوساً، فقد جاء في صفة ركوع النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (يسوي
ظهره حتى لو صب عليه الماء لاستقر).
ويضع يديه على
ركبتيه، ويقبض ركبتيه بيديه، وتكون أصابع يديه مفرجة
ويجافي مرفقيه
عن جنبيه فلا يلصقهما بهما.
ولا يطأطئ رأسه
ولا يرفعه، بل يجعله مستوياً مع ظهره.
وتطمئن مفاصله وتسكن
وتسترخي حال الركوع.
ويقول الذكرَ الواردَ
في الركوع وهو: (سبحان ربِّ العظيم)، وأدنى الكمال قولها ثلاث مرات، وكلما زاد فهو
أفضل، يسبح خمساً أو سبعاً أو عشراً.
ويستحب أن يسبح
بأذكار الركوع الأخرى الواردة، وينوع فيها فقد كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم (يُكثِرُ أنْ يقولَ في ركوعِه وسجودِه: سبحانَك اللهمَّ ربَّنا وبحمدِكَ، اللهمَّ
اغفِرْ لي؛ يتأوَّلُ القُرآنَ) متفق عليه.
وكان أيضاً يقولُ
في ركوعِه وسجودِه: (سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، ربُّ الملائكةِ والرُّوحِ) رواه مسلم.
ويقول في
ركوعه: (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة) صحيح رواه أبو داود
والنسائي.
فيا
عباد الله المصلين: أتموا الركوع والسجود، واحذروا السرقة
من الصلاة، فقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ("
أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ " ".
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: "
" لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا " " أَوْ قَالَ: "
" لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ") صحيح أخرجه
أحمد.
و(كان عليه
الصلاة والسلام يصلي فَلَمَحَ بِمُؤْخِرِ عَيْنِهِ رَجُلًا، لَا يُقِيمُ
صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ، قَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ لَا صَلَاةَ
لِمَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ») صحيح رواه أحمد وابن
ماجه
ورأى صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً لا يُتِمُّ ركوعَه، وَينْقُرُ في سجودِه، وهو
يصلّي، فقال: "لو مات هذا على حاله هذه؛ مات على غيرِ مِلَّةِ محمدٍ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، ثم قال: "مثَل الذي لا يُتمُّ
ركوعَه، ويَنْقرُ في سجودِهِ مثَلُ الجائع؛ يأْكُلُ التمرةَ والتمرتين؛ لا
يُغنِيان عنه شيئاً". حسن رواه أبو يعلى وابن خزيمة.
اللهم
أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم حبب إلينا الصلاة واجعلنا فيها من
الخاشعين المحافظين عليها في أوقاتها يا رب العالمين.
اللهم
إنا نسألك رحمة تصلح بها قلوبنا وتفرج بها كروبنا وتيسر بها أمورنا وتشفي بها
مرضانا ، وترحم بها موتانا يا أرحم الراحمين . اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث
أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا أنفسنا طرفة عين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت
أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل
الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر. اللهم اغفر للمسلمين
والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات
. اللهم اغفر للمسلمين الميتين وجازهم بالحسنات إحسانا وبالسيئات عفواً وغفراناً .
اللهم
آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ
بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام واجزهم خيراً على ما يقدمونه لخدمة
الإسلام والمسلمين يا رب العالمين .
اللهم
ادفع عن بلادنا مضلات الفتن، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين
ومن كل شر وفتنة يا خير الحافظين، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان
ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا آتنا في الدنيا
حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
سبحان
ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد
من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
|