في الحلال غنية عن الحرام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا،
ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى
آله وصحبه ومن تمسك بهديه واستن بسنته وسلم تسليماً كثيراً. (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد رسول الله صلى الله عليه
وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
أيها
المسلمون:
أشرف العلوم بعد علم التوحيد والعقيدة علم الحلال والحرام، لأنه بالعلم بالحلال
والحرام يحقق العباد العبودية لله بامتثال أمره واجتناب نهيه، لذا قال مجاهد في
معنى قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قال:
إلا لآمرهم وأنهاهم.
ــ والحلال
بين والحرام بين، ففرض على العباد استعمال الحلال واجتناب الحرام.
ــ وبين
الحلال والحرام أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن عود نفسه اتقاء
الشبهات، سلم من انتهاك المحرمات.
عباد
الله: الله
تبارك وتعالى لا يحلل ولا يحرم إلا لحكمة وغاية، تحقيقاً لمصلحة خالصة أو غالبة،
أو دفعاً لمفسدة خالصة أو غالبة.
فالله تبارك وتعالى ما حرم علينا المحرمات ليحرمنا،
وإنما ليمنعنا مما يضرنا، وليختبر صبرنا وطاعتنا وامتثالنا وعبوديتنا له.
ومن
رحمتِهِ سبحانه بنا، وفضلِهِ علينا: أن جعل لنا الأصل في الأشياء الحل والإباحة.
فالأصل
في الأطعمة والأشربة والألبسة والمراكب والمنازل ونحوها الحلُ والإباحةُ، فلا يَحْرُمُ
منها إلا ما دل الدليل على حرمته، قال الله تعالى: ((هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم
مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعاً)) وقال تعالى: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ
الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)).
فإذا
كان الأصلُ في الأشياء الحلَ والإباحة، فنتيجة ذلك حتماً وجزماً: أن يكون في
الحلال غُنْيَةٌ وكفايةٌ عن الحرام.
لأن
الحلال أضعافُ أضعافِ الحرام، فلا حاجة بالعباد للحرام، ولا ضرورة، فالحلال يكفيهم
ويغنيهم وزيادة.
فمثلا قال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ
يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ». حسن أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ
حِبَّانَ وأخرجه البخاري عن ابْنُ مَسْعُودٍ موقوفا
وأيضاً
نجد
في الشريعة الغراء أنه: ما حرم الله على عباده شيئاً، إلا عوضهم خيراً منه من
المباحات.
فحرم الله علينا الربا، وأعاضنا عنه بحل البيع
وسائر التجارات والشراكات الرابحة.
وحرم
علينا القمار، وأعاضنا عنه بحل المسابقات النافعة في الدين، بالخيل والإبل والسهام.
وحرم علينا
الحرير، وأعاضنا عنه بحل أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان اللطيف والقطن
الناعم.
وحرم
علينا الزنا، وأعاضنا بحل النكاح بما طاب لنا من النساء، واحدةٍ، ومثنى، وثلاثَ،
ورباع.
وحرم
علينا سماع آلات المعازف والأغاني، وأعاضنا عنها بسماع القرآن والسبع المثاني.
وحرم
علينا شرب المسكر، وأعاضنا عنه بالصنوف العديدة من الأشربة اللذيذة النافعة للروح
والبدن.
وحرم
علينا الخبائث من المطعومات، وأعاضنا عنها بالمطاعم الطيبات التي لا تحصى كثرة.
ومن تأمل
وتفكر، عرف حكمة الله ورحمته وتمام نعمته على عباده فيما أمرهم به، ونهاهم عنه،
وفيما أباحه لهم، وهان عليه ترك الهوى المردي، واعتاض عنه بالنافع المجدي.
((يَسْأَلُونَكَ
مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)) ((وَيُحِلُّ
لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ))
فيا
عباد الله:
اكتفوا بالمباحات، شكراً وعبودية، وأدركوا حكمة الابتلاء الربانية، ففي القرآن: ((يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا
لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)) وفي الحديث: (اتَّقِ الْمَحَارِمَ
تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ) حسن، أحمد والترمذي.
ولقد
ابتلانا ربنا واختبرنا بتحريم أشياء مما تشتهيه أنفسنا وتهواها، ليعلم الله من
يطيعه ومن يخافه بالغيب والشهادة.
لذا
يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (حجبتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحجبت
النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ) البخاري ومسلم.
فالنجاح
في الابتلاء والنجاة، يتطلب إكراه النفس على امتثال أوامر الله، ومجاهدتها على
اجتناب ما تشتهيه مما حرم الله.
وإن بعض
الناس ممن ابتلي باقتراف حرام تهواه نفسه، إذا نصحه ناصح، وذكره مذكر بحرمة فعله،
ضاق أُفُقُه، وذهب فِقْهُه، وتأفف وتضجر وغضب وقال: كل شيء حرام، ما تركتم شيئاً
إلا وحرمتموه، عقدتم حياتنا، وضيقتم علينا، ما عندكم إلا التحريم، الدين يسر،
والأمر واسع، والله غفور رحيم.
وهذا
الكلام عباد الله من جهالات القول، ومن وحي الشيطان والهوى، ولا يقوله إلا جاهل أو
متجاهل متبع لهواه، قد تعلقت نفسه بهذا الحرام فأراد التبرير لها، وإلا فالمحرمات
شيء قليل مقارنة بأعداد وأنواع المباحات، فلربنا الحمد والشكر والثناء الحسن.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الْحمد لله على آلائِه، والشكرُ له على نعمائِه، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له جلَّ في عليائِه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله
ورسولُه خيرتُه من خلقِه وصفيُّه من أوليائِه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى
آله وأصحابه وأصفِيائِه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تنزَّلَ أمرُه بين
أرضِه وسمائِه. أما بعد:
عباد
الله: من ابتلي بعمل شيء من الحرام، كتعاطي المخدرات والمسكرات، أو شرب الدخان أو
الشيشة أو الحشيش، أو ابتلي بمقارفة الزنا أو أكل الربا، أو السرقة أو غيرها من
المحرمات، فواجب عليه المبادرة إلى الإقلاع عن هذا الحرام، والتعجيل بالتوبة،
والأخذ بالأسباب المعينة، وليطلب العون من الله.
لما
نزل تحريم الخمر، ألقى الصحابة الكؤوس من أيديهم وأراقوا الخمر الذي عندهم في
أوانيهم وأسقيتهم، في طرقات المدينة، ولم يمنعهم اعتيادٌ أو إدمانٌ، بل إن حلاوة
المبادرة إلى طاعة الله وتنفيذ أمره، غلبت سلطان الشهوة والهوى في نفوسهم.
ولما
نزل تحريم لحوم الحمر الأهلية، وهم يطبخونها في قدورهم، أراقوها وهم بحاجة إليها.
وهكذا صنع الصحابة رضي الله عنهم مع بقية
المحرمات عندما نزل تحريمها.
وإن
لنا عبرة بما حصل لأبوينا آدم وحواء عليهما السلام، حيث أسكنهما الله الجنة، وأباح
لهما كل ما فيها، إلا شجرةً واحدة حرمها عليهما، وحذرهما من إغواء عدوهما الشيطان
الرجيم، وبعد مدة من السكنى في الجنة والأكل من طيباتها، وسوس لهما الشيطان، وأقسم
لهما كاذبا، فوقعا في فخه وتأثرا بتزيينه، وضعفا مع أنفسهما، فأكلا من الشجرة
الوحيدة التي نهيا عنها.
فكانت
النتيجة: أن أُخرجا من الجنة، وأُهبطا إلى الأرض، بمعصية واحدة، لأن لهما في طيبات
الجنة كفاية وغنية.
لكنهما
اعترفا بذنبهما وبكيا وتابا وأنابا، وبادرا و((قَالَا رَبَّنَا ظَلَمۡنَآ
أَنفُسَنَا وَإِن لَّمۡ تَغۡفِرۡ لَنَا وَتَرۡحَمۡنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ))
فقبلهما الله، وتاب عليهما، وسيعودان إلى الجنة مرة أخرى.
وتدبروا
معي هذه الآيات:
((وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ
فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا
لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا
عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ
لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا
تَضْحَى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى
شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا
سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى
آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ
فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى))
مثالٌ
حيٌ، قَصَّه اللهُ علينا، فيه تتجلى خطورة الاجتراء على الحرام مع الغُنْيَةِ عنه،
ليكون لنا فيه معتبر ومدكر.
فكل
من اعتاد محرماً، فليعجل بالتوبة كما تاب الأبوان، ليرجع معهما إلى الجنان، ولا
يتمادى ويسوف حتى يفجؤه الأجل فيبوء بالخسران.
فاللهم اجعلنا ممن يعظم شعائرك وحرماتك . اللهم اجعلنا نخشاك كأننا
نراك، اللهم نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، واملأ قلوبنا من خشيتك ومراقبتك في
السر والعلن يا حي يا قيوم.
اللهم يا مقلب القلوب ثبتنا على دينك، اللهم نسألك الهدى والتقى
والعفاف والغنى، اللهم أحينا على الإسلام والسنة وتوفنا عليها وأنت راضِ عنّا يا
رب العالمين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نعوذ بك من زوال
نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك
المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك،
ونحن غير مفتونين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم
وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام واجزهم
خيراً على ما يقدمونه لخدمة الإسلام والمسلمين يا رب العالمين .
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا
غلا للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
وقنا عذاب النار.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت
الوهاب.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله
أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
|