ذوي الهمم
15 /5 / 1441
الحمدُ لله الذي خلقَ كلَّ
شيءٍ فقدَّره تقديرًا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له لم يزل عليماً
حكيماً سميعاً بصيراً رؤوفاً رحيماً عليماً قديراً، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه،
أرسله ربه رحمةً وسراجاً منيراً، كان لربه عبداً شكورا، وبعباد الله رؤوفاً، صلى الله
عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: أوصيكم ونفسي
بتقوى الله، فتقوى الله لمن أراد النجاة أساس، وهي خير اللباس، وخير زاد للناس، قال
الله تعالى: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا
أُولِي الْأَلْبَابِ)) أما بعد:
صحابي جليل اسمه عبد الله بن أُمِّ مَكْتُومٍ قرشي عامري، من أهل مكة
أسلم قديماً بمكة، وهاجر إِلَى المدينة في السنة الثانية، كان من ذوي الاحتياجات الخاصة،
كان ضرير البصر رجل أعمى، لكنه كان ذا همة عالية ومبادرة ومشاركة وفاعلية.
ذهب يوماً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسترشد ويستزيد من العلم والهدى،
فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم لانشغاله بدعوة أحد من أشراف قريش (أبي بن خلف)، رجاء
أن يسلم، فعاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم على إعراضه عن هذا المؤمن الصادق، في آيات تتلى إلى
يوم القيامة: ((عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى* وما يدريك لعله يزكى *
أو يذكر فتنفعه الذكرى))، (فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يُكرم ابن أم مكتوم)
مسند أبي يعلى (5/431/رقم3123) .
وظهر في ابن أم مكتوم تميزاً رضي الله عنه جعل النبي صلى الله عليه وسلم
يوليه وظيفة الأذان مع المؤذن الأول بلال بن رباح رضي الله عنه، فكان ابن أم مكتوم
مؤذناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، شريكاً لبلال في هذا الشرف، بل كان أضبط وأدق
من بلال في الأذان لصلاة الفجر.
ويظهر من الرجل الأعمى تميز أكثر فأصبح نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا
خرج لغزواته يستخلف عبد الله الأعمى على المدينة، فكان يتولى الإمارة نيابة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ويتولى الصلاة بالناس، قيل
إنه استخلفه ثلاث عشرة مرة، ولولا كفاءة عبدالله ما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وآخر استخلاف له في العهد النبوي كان لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجة الوداع.
لكن عبدالله بعد ذلك كان يخرج للغَزُو مع الصحابة وَيَقُولُ لهم: ادْفَعُوا
إِلَيَّ اللِّوَاءَ فَإِنِّي أَعْمَى لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفِرَّ وَأَقِيمُونِي بَيْنَ
الصَّفَّيْنِ.
وآخر معارك الإسلام التي شهدها ابن أم مكتوم معركة القادسية، وكان معه
اللواء، وقتل بالقادسية شهيدًا رضي الله عنه وأرضاه.
أنموذج رائع من نماذج ذوي الاحتياجات الخاصة ذوي الهمم في العهد النبوي،
وأي تعزيز للمكانة أجل من هذا التعزيز الذي مارسه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع
هذا الرجل الأعمى ابن أم مكتوم.
فحري بأهل الإسلام أن يتخذوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا منهجاً للتعامل مع أهل الاحتياجات ذب الهمم.
وأنموذج آخر ذو همةٍ عالية، واحتياج خاصٍ من الصحابة الكرام رضوان الله
عليهم، هو عمرو بن الجموح الأنصاري رضي الله عنه، كان كبيراً في السن وكان أَعْرَجَاً
شَدِيدَ الْعَرَجِ، وَكَانَ لَهُ بَنُونَ أَرْبَعَةٌ، يَشْهَدُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ
صلى الله عليه وسلم الْمَشَاهِدَ أَمْثَالَ الأُسْدِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ،
أَرَاد أبناؤه حبسه عن الخروج، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ اللهَ قَدْ عَذَرَكَ، فَأَتَى
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بَنِيَّ يُرِيدُونَ
أَنْ يَحْبِسُونِي عَنْ الْخُرُوجِ مَعَكَ، وَاللهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَطَأَ بِعَرْجَتِي
هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَمَّا أَنْتَ
فَقَدْ عَذَرَكَ اللهُ، فلَا جِهَادَ عَلَيْكَ، وَقَالَ لِبَنِيهِ: لَا عَلَيْكُمْ
أَنْ لَا تَمْنَعُوهُ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَرْزُقَهُ الشَّهَادَةَ )، فَخَرَجَ مَعَهم،
فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شهيداً. معرفة الصحابة لأبي
نعيم (14/ 156)، وصححه الألباني في فقه السيرة ص260 .
انظروا إلى موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، بَيَّن للعمرو الأعرج
عذرَ الله له، لكنه لم يمنعه من المشاركة، ولم يحرمه من تقديم شيء للإسلام وطلب الشهادة
في ساحاتها، فشارك في المعركة فكانت مشاركته فاعلة، ونال الشهادة.
خرج من بيته رضي الله عنه وهو يقول: اللهم لا تردني إلى منازل بني سلمة،
(منازل قومه) فباع نفسه لله عند خروجه وقاتل بإقدام حتى نال الشهادة.
يقول أبو طلحة رضي الله عنه: لكأني أنظر إلى ظَلَع رِجْلِ عمرو بن الجموح
يوم أحد، يقول: أنا والله مشتاق إلى الجنة، ثم أَنْظُرُ إلى ابنه خَلَّادٍ يعدو في
أثره حتى قتلا جميعاً رضي الله عنهما. الطبقات
لابن سعد 4 / 376 .
أيها المسلمون: لقد أحسن مَنْ منع إطلاق اسم (معاق) على من فقدوا حاسة أو
ابتُلوا باعتلالِ أو فقدانِ عضو، أو نقصان خَلْق، فَغَيَّرَهُ إلى اسم (ذوي الهمم).
وإن لهذا العمل أصلاً في الشرع وفي لغة العرب، فالشرع يأمر بالتفاؤل واستخدام
كلماته الطيبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ، قَالُوا: وَمَا
الفَأْلُ؟ قَالَ: الكَلِمَة الطَيِّبَة) متفق عليه.
والعرب كانت تسمي المسحور (مطبوباً)، تفاؤلاً بالشفاء، وتسمي اللديغ
(سليماً)، أيضا تفاؤلاً بالعافية، وتسمي الصحراء المَهْلكة (بالمفازة) تفاؤلاً بالفوز
بالسلامة، وفي عرفنا المستعمل نُسمي الأعور بـ (كريم العين)، تلطيفاً للوصف، وكل ذلك
من التفاؤل الصالح الحسن.
فكذلك ذوي الاحتياجات الخاصة جميل أن نسميهم بـ (ذوي الهمم) لبث روح الإيجابية
والأمل في نفوسهم، لتقوى عزائمهم على العمل، وليحسنوا الظن بربهم.
وفي ماضي أمتنا وحاضرها، صورٌ وشواهد كثيرة على أن الابتلاء بنقص حاسة
أو عضو لم يكن عائقاً عن النجاح والتميز، بل كان في كثير من الأحيان سبباً في الإلهام،
وبث روح الإصرار واستخراج مكنون العزم، مع التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه، واستمداد
العون منه سبحانه
أيها المسلمون: إن المعاق الذي يستحق هذا الاسم والوصف، هو ذلك الإنسان
السليم في جسده القادر على التنفيذ لكنه لا ينفذ أعاقته الأماني والغرور والهوى والشهوة
والشبهة.
إن المعاق هو من أعاقه التسويف والغفلة عن التوبة الصادقة.
المعاق من أعاقته شهوة النوم بعد السهر عن القيام لصلاة الفجر.
المعاق من أعاقته الفترة عن حضور صلاة الجماعة.
المعاق من أعاقه البخل والشح عن الصدقة.
المعاق من أعاقته القسوة عن الرحمة والصلة وبر الوالد والوالدة.
المعاق من أعاقته البطالة والعطالة عن العمل والإيجابية.
المعاق من أعاقته الحزبية عن الوفاء لدينه ووطنه وأمته.
المعاق من أعاقه دنو الهمة عن القيام بواجب الدعوة.
المعاق من أعاقه قلة الصبر عن النجاح والظفر، وهو قادر.
ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام
اللهم إنا نسأل السلامة والعافية
والهمم العالية، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وبسنة سيد المرسلين ، ونفعني الله
وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم ، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين
من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين، وليُّ
الصالحين، أحمدُ ربي وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، له المُلك وله الحمدُ وهو الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا
محمدًا عبدُه ورسولُه صادقُ الوعد الأمين، اللهم صلِّ على عبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى
آلهِ وصحبهِ والتابعين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين . أما بعد :
أيها الناس: إن لذوي الاحتياجات
الخاصة حقوقاً، وللتعامل معهم آداباً منها:
أولاً: حمد الله على العافية، وسؤال الله لهم الشفاء والإعانة، قال رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ رَأَى صَاحِبَ بَلَاءٍ، فَقَالَ:
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ
مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا، إِلَّا عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ البَلَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ
مَا عَاشَ) حسن رواه الترمذي وابن ماجه.
ثانياً: عدم السخرية منه، وعدم احتقارهم، فالله الذي ابتلاهم وسلمك. قال
الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ))، وقال
صلى الله عليه وسلم: (بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ).
ثالثاً: الرحمة بهم، وإدخال السرور عليهم، وتهيئة الحياة الكريمة لهم،
ورحمتهم تقتضي إيصال الخير لهم ودفع الشر عنهم، فـ (الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ،
ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاء)
رابعاً: تقديم العون لهم، وخدمتهم فيما يحتاجون للخدمة فيه، قال رَسُولَ
اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنَّ أَبْوَابَ الْخَيْرِ لَكَثِيرَةٌ: التَّسْبِيحُ،
وَالتَّحْمِيدُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالتَّهْلِيلُ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ
عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَتُسْمِعُ الأَصَمَّ، وَتَهْدِي
الأَعْمَى، وَتُدِلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَتِهِ، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ
مَعَ اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَحْمِلُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ،
فَهَذَا كُلُّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ)) رواه أحمد والنسائي في الكبرى والبيهقي وصحح إسناده الأرناؤوط.
خامساً: تعليمهم أحام الشرع الخاصة بأمثالهم، وبيان سماحة الدين لهم،
فمن قواعد الشريعة، (اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) و (المشقة تجلب التيسير)
و ((لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)) و((لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا))، فتخفف عنهم التكليفات بما يتناسب مع طاقاتهم، كما خفف
الله عنهم في مواضع من الشريعة.
اللهم اجعلنا من عبادك الرحماء المتراحمين، المتآخين في الدين المتبعين
سنة سيد المرسلين.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمنا يا عليم.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها
معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت
راحة لنا من كل شر، اللهم حببّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق
والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر
علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك شاكرين..
لك ذاكرين.. لك راغبين.. لك راهبين. اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا،
واهد قلوبنا، ويسر أمورنا، وطهر قلوبنا، واسلل سخيمة قلوبنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا وجماعتنا واستقرارنا ، اللهم احفظ بلادنا
من شر الأشر وكيد الفجار، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا ، اللهم آمنّا في أوطاننا
ودورنا ، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم
لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وبصّرهم بأعدائهم والمتربصين بهم يا ذا الجلال
والإكرام .
اللهم اكتبنا في ديوان السعداء، وأعزنا من حال أهل الشقاء، واغفر اللهم
لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم اجعل جزاءنا
موفورا وسعينا مشكورا وذنبنا مغفورا، اللهم أذقنا بَرْد عفوك وحلاوة مغفرتك ولذة مناجاتك،
اللهم وَفِّقْنَا للتوبةِ والإنابةِ وَافْتَحْ لنا أبواب القبول والإجابة، اللهم تقبل
صلاتنا ودعاءنا وكفر عنا سيئاتنا وتب علينا واغفر لنا وارحمنا يا أرحم الراحمين.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله
أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح
العريفي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
|