شرح معاني دعاء السفر
25 - 10 - 1440هـ
الخطبة الأولى :
الْحَمْدُ
للهِ الْمُتَعَـالِي فِي مَجْدِهِ وَمُلْكِهِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ،
وَأَتُوبُ إِليهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ
سَيِّئاتِ أَعْمَالِنَا، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَشْهدُ أَنَّ لا
إِلهَ إِلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنّ مُحْمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
بَعَثَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيـُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِهِ، صَلَى اللهُ
وَسَلّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْـبِهِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ
بِـإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّـا بَعْدُ:
فيا أيها
المسلمون : اتقوا ربكم وأطيعوه ، وراقبوه ولا تعصوه ، وتوبوا إليه واستغفروه.
عباد الله: رغم راحة مراكب السفر ورفاهيتها، وتوافر وسائل السلامة
فيها في زماننا، إلا أن السفر يبقى محفوفاً بالمخاطر، غير خالٍ من المشاق والمتاعب،
ونَبِيُّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصف السفر فيقول: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ
مِنَ العَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ» متفق عليه.
والفقر صفة لازمة للعباد، والمؤمن يفتقر إلى مولاه
في كل أحواله، ويبرأ من حوله وقوته ويتقوى بقوة الله.
وأحوج ما يكون العبد لإظهار
الفقر عند السفر، فيتوكل على الله ويتعلق قلبه بالله، فلا حول للعبد ولا قوة إلا بالله،
ولا سهل إلا ما سهله الله، ولا سلامة إلا بتسليمه فهو السلام ومنه السلام تبارك ربُّنا
ذو الجلال والإكرام.
عباد الله: وإن مما يُظْهِرُ به المسافر افتقاره لربه عند سفره،
دعاءَ السفر:
فعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ
خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ
لَنَا هَذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ،
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ
مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ،
اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللَّهُمَّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ
فِي الْمَالِ وَالأَهْلِ، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ: آيِبُونَ تَائِبُونَ
عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» رواه مسلم.
وسوف أستعرض وإياكم معانيَ ألفاظِ هذا الدعاء المبارك:
لعل المسافر منا إذا دعا به ربَه يتواطأ قلبُه مع لسانه في استشعار معانيه.
فأولاً قوله: «كَانَ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا اسْتَوَى عَلَى
رَاحِلَتَهُ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلاَثًا» كان إذا ركب الراحلة متهيئاً
للسفر قال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. فيفتتح دعاءه وسفره بتكبير الله، والتكبير
ذكرٌ للعظمة والأكبرية الربانية التي يتصاغر عندها كلُ شيء كبُرَ أم صغُر، جل أم حقر،
وهذا التكبير نوع من التوسل إلى الله بين يدي الدعاء، ومما جاء في عظيم فضله: قوله
صلى الله عليه وسلم: «وما كبَّرَ مُكَبِّرٌ قَطُّ إلَّا بُشِّرَ. قيل: بالجنة؟ قال:
نعم».
وبعد التكبير يقول المسافر في دعائه: « سُبْحَانَ
الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا
لَمُنْقَلِبُونَ ».
هذه الجملة قد أمر الله بها عند ركوب الدواب في قوله
تعالى: ((وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ () لِتَسْتَوُوا
عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ
وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ
() وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ)) فامتثل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر
فجعلها جزءاً من دعاء الركوب ودعاء السفر.
فقول: « سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا» تسبيح
لله، وهو ذكرٌ لله بالتنزيه والتقديس عما لا يليق بجلاله وعظمته، وهو يقتضي التعظيم
والوصف بالكمال والجلال، ومعنى الجملة: أقدس وأعظم الله الذي ذلل لنا هذا المركوب فانقاد
لنا فركبناه واستوينا على ظهره.
ــ تعظيم بالتكبير، ثم تنزيه وتقديس بالتسبيح، «وَالتسبيح
والتَّكْبِيرُ يَمْلَأُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ» حديث صحيح.
ثم بعدهما اعتراف للمنعم بإنعامه بتسخير المركوب، سواء
كان حيواناً، أو مركوباً حديثاً برياً أو بحرياً أو جوياً، وله المنة والفضل فهو الذي
جعل لنا من الفلك والأنعام ما نركب.
وقوله: «وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» مقرنين أي
مطيقين، اعترافٌ بالضعف والعجز وتَبَرُّءٌ من الحول والقوة البشرية، ومعنى الجملة:
وما كنا مطيقين لتذليل هذا المركوب وتسخيره، ولا مقتدرين على ركوبه والاستواء على ظهره،
لولا تسخير الله لنا إياه.
فهذه الجملة براءة من الحول والقوة إلا بالله، وهو
توحيد وتعلق بالله بالاستعانة به، وبالتوحيد تكون النجاة، وستتتابع جمل التوحيد والتعلق
بالله في الدعاء.
عن سليمان بن يسار: [أن قومًا كانوا في سفر، فكانوا
إذا ركبوا قالوا: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)،
قال: وكان فيهم رجل على ناقة له رازمٍ (أي ضعيفة هزيلة جالسة)، فقال الرجل: أمَّا أنا
فإني لهذه الناقة مُقْرِن، قال: فقمصت به (أي وثبت بسرعة) فصرعته، فدقَّت عنقه، فمات]
أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر
الدر المنثور 13/191.
أساء الأدب مع الله، فادعى القدرة والإطاقة على تسخير
الناقة، فلم تغن عنه قدرته شيئاً وقتلته الناقة.
وقبل أكثر من مئة عام صنع الإنجليز أضخم سفينة في العالم
لنقل الركاب، وصمموها بأعلى مواصفات السلامة ووسائلها، وسموها (التايتنك) ومعناه بالعربية
(المارد)، وأعجبوا بقدرتهم وركنوا لقوتهم ولقبوها بالسفينة التي لا تغرق، وتجرأ أحد
مهندسيها على الله بقوله: حتى الله لا يستطيع أن يغرقها. فغار الله في عليائه، وكسر
كبرياءهم، فأغرقها في أول رحلة لها فكانت آخر رحلة، في غضون سويعات وغرق معها ألفٌ
وخمسُمئة إنسان.
بينما نجت سفينة نوح عليه السلام من الغرق، وسارت بأمان
من الله بين أمواجٍ كالجبال، رغم أنها مصنوعة من أخشاب بقدرات بدائية، لأن نوحا ومن
معه ركبوها متوكلين على الله، مستسلمين لله، فسارت بهم باسم الله، وجرت بعين الله وحفظه،
حتى رست باسم الله، وهذه ثمرة توحيد الله وتعلق القلوب به.
وقد كان المشركون الأولون إذا ركبوا في البحر أخلصوا
الدعاء لله فينجيهم الله بإخلاصهم، ومع ذلك يرجعون فيشركون.
وقوله في الدعاء: « وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ
» أي إلى ربنا راجعون بعد مماتنا وسيرنا الأكبر، فيتذكر المسافر سفر الآخرة بسفر
الدنيا، فالعباد في الحياة مسافرون سفراً عظيماً، ورجوعهم ومنقلبهم منها إلى الله جل
وعلا في يوم عظيم وهذا التذكر يضبط سلوك المسافر لأنه يربط يذكره بالآخرة
وثاني جمل الدعاء: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا
الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى»، وهي الدعوة الأولى في الدعاء،
وتتعلق يحفظ الدين وصيانته، وسبق بيانها في الخطبة الماضية.
الدعوة الثانية في هذا الدعاء المبارك:
ــ «اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا»
هوِّن: من التهوين الذي هو التيسير والتسهيل، يسأل المسافر ربه: يا الله يسِّر علينا
مشاق سفرنا هذا وسهل علينا همومه ومتاعبه ومصاعبه.
ــ «وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ» والمراد: اطْوِ عنا بُعْدَ
سفرنا حقيقةً وحِسَّاً ومعناً، والمعنى: ارفع عنا أو خَفِّف علينا مشقة السفر وبارك
لنا في سيرنا وقَرِّب لنا المسافة البعيدة حسًّا ومعناً، حتى نقطع مسافته بيسر كيسر
قطع المسافة القصيرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن
العظيم وبسنة سيد المرسلين ، ونفعني الله وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم
، واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الْحمد لله على آلائِه، والشكرُ له على نعمائِه،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جلَّ في عليائِهِ، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا
عبدُ الله ورسولُه خيرتُه من خلقِه وصفيُّه من أوليائِهِ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك
عليه وعلى آله وأصحابه وأصفِيائِهِ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تنزَّلَ أمرُه
بين أرضِه وسمائِهِ. أما بعد:
الدعوة الثالثة في دعاء السفر: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ
فِي السَّفَرِ» أي: أنت الحافظ والمعين، وكفى بك حافظاً ومعينا، خبر يراد به الطلب
أي: يا الله اصحبنا بحفظك ورعايتك، وفيه الاكتفاء بالله عن كل صاحب سواه. لذا جاء في
رواية: «اللهُمَّ اصْحَبْنَا فِي سَفَرِنَا) عند أحمد بسند صحيح
الدعوة الرابعة: «وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ» أي: الذي يخلفنا في
أهلينا بإصلاح أحوالهم، بعد مغيبنا وانقطاع نظرنا عنهم، والمعنى هنا: أنت الذي أرجوه
وأعتمد عليه في غيبتي عن أهلي أن يَلُمّ شعثهم، ويداوي سَقَمهم، ويحفظ عليهم دينهم،
وأمانتهم. وقد جاء في رواية: «وَاخْلُفْنَا فِي أَهْلِنَا» بصيغة الدعاء.
وكان المسافر عند خروجه قد استودع ربه أهله فقال في
وداعه: «أَسْتَوْدِعُكم اللَّهَ الَّذِي لَا تَضِيعُ وَدَائِعُهُ»، والله تبارك وتعالى
إذا استودع شيئاً حفظه.
الدعوة الخامسة: يستعيذ الْمسافر بالله من ثلاثة
أمور:
الأول: «اللَّهُم إِنِّي أَعُوذ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ
السَّفَرِ» أي: ألتجئ وأستجير وأتحصن بك يا الله من مشقّة السفر وتعبه وصعوبته وشدّته.
الثاني: «وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ» الكآبة: تستعيذ بالله
من تغير نفسه وضيقها وتكدرها بالغم والهم والحزن، وإصابتها بالاكتئاب، بسبب المناظر
التي تُعْقِب الكآبةَ عند النظر إليها، فيدعو الله أن يجنبه هذه المناظر في سفره.
الثالث: «وَسُوءِ
الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ» أي: أستجير وأتحصن بك يا الله من سوء الرجوع
والانقلاب إلى أهلي ومالي بعد سفري، بأن أرجع منقوصًا بمالي بسرقة أو سلب أو نصب واحتيال
أو نحوها، أو أرجع وقد أصاب مالي آفةٌ، أو أرجع فأجد أهلي مَرْضَى أو قد مات بعضهم
أو فقد ونحو ذلك، يستعيذ بالله من ذلك كله وأمثاله..
فاللهم
فقهنا في الدين وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علما وهدى وتقى وصلاحا يا أرحم الراحمين، اللهم
أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا
التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم
حببّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من
الراشدين.
اللهم
أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر
الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك شاكرين.. لك ذاكرين.. لك راغبين..
لك راهبين. اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، ويسر أمورنا،
وطهر قلوبنا، واسلل سخيمة قلوبنا، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك الثبات
في الأمر، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة
والنجاة من النار، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم
احفظ علينا ديننا وأمننا وجماعتنا واستقرارنا ، اللهم احفظ بلادنا من شر الأشر وكيد
الفجار، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا ، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا ، اللهم آمنّا
في أوطاننا ودورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ
بنواصيهم للبر والتقوى وبصّرهم بأعدائهم والمتربصين بهم يا ذا الجلال والإكرام .
ربنا
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ
هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات.
عباد
الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما
تصنعون ..
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
|