القَناعَةُ والتَّذْكِيرُ
بِنِعْمَةِ الأَمْنِ واجْتِماعِ الكَلِمَةِ إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ
اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا
إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد، أَيَّها
الْمُسْلِمُونَ: اتقوا اللهَ تعالى، واعلَمُوا أَنَّ
سعادةَ القلبِ وراحةَ البالِ مِنْ الْمَطالِبِ التي يَسْعَى الناسُ لِتَحْصِيلِها
والظَّفَرِ بها، فهِيَ مَطْلَبٌ عزيزٌ، ولذلكَ لا يَنالُها كُلُّ أحد. وإنما
يَنالُها مَن وَفَّقَهُ اللهُ وَتَوَفَّرَت فيه أسبابُها. وأسْبابُها يا عبادَ
اللهِ كثيرَةٌ، ومِنْ أَهَمِّها بَعْدَ الإيمانِ باللهِ
ورسولِه: القناعَةُ. فَهيَ
مِن أَعْظَمِ مُقوِّماتِ السعادةِ وراحةِ البال، وهي دَوَاءُ الطَّمَعِ الذي
يُورِدُ الإنسانَ الْمَهالِك. وهي دُوَاءُ الحَسْرَةِ على فواتِ حُطامِ الدنيا.
بَلْ هِي الغِنَى الحَقِيقيُّ للإنسان، لأن العَبْدَ إذا تَعَلَّقَ قلبُه بالدنيا
والاستكثارِ مِنها، قَسَى قلبُه وغَفَل. ومِنْ أكثرِ ما
يُعِينُ على القَناعةِ: أن الرِّزْقَ
مَقسومٌ، فلا يستطيعُ أحدٌ كائِنًا مَن كان أَنْ يَحْبِسَ عَنْكَ الرزقَ إذا
ساقَهُ اللهُ إليك، ولا يستطيعُ أحدٌ كائِنا مَنْ كان أن يُوصِلَه إليك إذا
حَبَسَه اللهُ عَنْك. فإنه لا مانِعَ لِما أعطَى الله، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ
الله. ولِذلِكَ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إن رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ، أَنَّ نَفْسًا لَنْ
تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا ). فإذا
حَصَلَ لك رِزْقٌ في هذه الدنيا، فاحْمَدِ اللهَ. وإذا حُرِمْتَ شيئًا مِنْ رِزْقِ
الدنيا، أو نَقَصَ شيءٌ مِنْ مالِك، فاعْلَمْ أن هذا ما قَدَّرَ اللهُ لَكَ
وقَسَم. فلا تجْزَعْ ولا تَحْزَنْ ولا تَسْخَط، وتُلْحِقِ اللَّوْمَ على البَشَرِ
الضُّعَفاءِ الذين لا يَمْلِكُون لِأَنْفُسِهِم نَفْعًا ولا ضرًا. ومِمَّا يُعِينُ
على القَناعة: تَذَكُّرُ هَوانِ الدنيا،
وأَنَّها لا تَزِنُ عند اللهِ جَناحَ بَعُوضة، وأَنَّ العَيْشَ الحقيقيَّ، هو
عَيْشُ الآخِرة. وأَنَّ التَّعَلُّقَ بالآخرة وبِعَيشِها يَجْعَلُ العَبْدَ
لا يَتَحَسَّرُ على ما يَرَى عليه أهلُ الثراءِ ومُتْعَةِ الدنيا مِن نَعِيم،
لأنَّه زائِلٌ ومَتاعٌ قَليل، ولِذلك قال تعالى: ( لا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنا بِه أزواجًا مِنْهُم زهرةَ الحياةِ الدنيا
). بَلْ ولا يَغْتَرُّ بِما يَرَى عليه أُمَمُ الكفرِ مِن مَتاعِ الدنيا وانفتاحِها
عليهِم ولَهُم، لأنَّ اللهَ جَعَلَ جَنَّتَهُم في دنياهُم. قال تعالى: ( لا يغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُوا في البلاد *
مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُم جَهَنَّمُ وبِئْسَ الْمِهاد ). قال عمرُ
بنُ الخطِابِ رضي اللهُ عنه، لِرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ادعُ اللهَ
فليوسِّعْ على أمتِك، فإن فارسَ والرومَ وُسِّعَ عليهِم وأُعْطُوا الدنيا، وهم لا
يَعبُدونَ اللهَ، وكان مُتَّكِئًا، فقال: ( أوَ فِي
شكٍّ أنت يا ابنَ الخطَّابِ؟ أولئِكَ قومٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّباتُهم في
الحياةِ الدنيا ). فقلتُ: يا رسولَ اللهِ اسْتَغْفِرْ لي. ومِن أعظَمِ ما
يُعِينُ على القناعة: أَنْ يَتَذَكَّرَ الْمُسْلِمُ
كيفَ كان عَيْشُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما قالت عائشةُ رضي اللهُ
عنها لابنِ أختِها عُرْوَةَ بنِ الزبيرِ: ( إِنْ
كُنَّا لَنَنْظُرُ إلى الهِلالِ، ثلاثةِ أَهِلَّةٍ في شَهْرَينِ، وَما أُوقِدَتْ
في أَبْياتِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نارٌ، فَقُلْتُ: ما كان يَعِيشُكُم؟
قالت الأَسْوَدان، التمرُ والْمَاء ). ومِن أَكْبَرِ
ما يُعِينُ عَلَى القَنَاعَةِ: أَنْ
يّتَذَكَّرَ العَبْدُ حالَ مَنْ هُمْ دُونَهُ في مُسْتَوَى الْمَعِيشَةِ،
يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( اُنْظُرُوا إلى
مَنْ هُوَ أسْفَلَ مِنْكُم، ولا تَنْظُرُوا إلى مَنْ هُوَ فَوقَكم، فإنه أَجْدَرُ
أَنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيكُم ). باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم. الخطبة الثانية الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا
عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا
شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد: عباد
الله: ومِن أعظَمِ ما يُعينُ على القَناعة: أن يَعْلَمَ الْمُؤمنُ بِأنَّ النِّعَمَ لَيْسَت خاصةً بالْمالِ
والدِّينارِ والدِّرْهَم. مَعَ العِلمِ أَنَّها مِنْ أقلِّ النِّعَمِ. فَهِي
نِعَمٌ مُشْتَرَكَةٌ، أعطاها اللهُ حَتى الكفارَ والْمشركين. كَمْ مِن النِّعَمِ
العَظِيمةِ التي نَتَقَلَّبُ فيها، ولا يَذْكُرُها إلا القَليلُ، أَلَيْسَ سِترُ
اللهِ عَلَيْنا، وعَدَمُ كَشْفِ مَعايِبِنا وذُنُوبِنا نِعْمَةٌ لا تُقدَّرُ
بِثَمَن؟ ماذا عَنْ نِعمةِ الإسلامِ والأَمْنِ والعافيةِ وسلامةِ العِرْضِ
والأَهْلِ؟ وماذا عَنْ نِعمةِ السمعِ والبَصَرِ والعَقْلِ؟ كَيْفَ لو سُلِبَتْ
واحدةٌ مِن هذِه النِّعَمِ التي يَدْفَعُ الإنسانُ فيها ما يَمْلِكُ مِنْ أَجْلِ
الحِفاظِ عليها. ولكنَّ القَلِيلَ مَن يَتَفَكَّر. أَيُّها الْمُسّلِمُون:
لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَينا في هذه البلادِ بِنِعَمٍ
كَثِيرَةٍ، يَعْجِزُ اللِّسانُ عَنْ تَعْدَادِ عُشْرِ مِعْشارِها. فَإِنَّنا نَعِيشُ
في بِلادِ الإسلامِ، بِلادِ التوحيدِ والسَّنَّةِ، البلَدِ الوَحِيدِ الذي
يَصْدَعُ عَلى الْمَلاءِ في كُلِّ أَنحاءِ العالَمِ، أَنَّه يَدعُو إلى التوحيدِ
والسُّنَّةِ، ويُحاربُ الشِّرْكَ والبِدعَ، ويُحَكِّمُ الشَّرِيعَةَ. تَحْتَ
قِيادَةٍ حَكِيمَةٍ، قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا بِنِعْمَةِ الإسلامِ والأَمْنِ،
واجْتِماعِ الكَلِمَةِ. يَجِبُ عَلَيْنا جَمِيعًا أَنْ نَرْعَى هذه النِّعْمَةَ
ونَتَعاوَنَ عَلى شُكْرِها وحِفْظِها، فإِنَّ الناسَ في هذه البلادِ يَنْعَمُونَ
بِنِعمَةِ الأمْنِ عَلَى أنفُسِهِمْ وأهْلِيهِم وأموالِهِم. وَقَد أشارَ اللهُ إلى
عِظَمِ هذه النِّعْمَةِ فقال: ( فَلْيَعْبُدُوا
رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ
). وقال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مَعَافىً فِي بَدَنِهِ،
عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَه الدُّنْيا بِحَذَافِيرِها
). فاتَّقُوا اللهَ تعالى، واشْكُرُوا هذه
النِّعْمَةَ، وَذلكَ بِلُزومِ أَمْرَيْنِ أساسِيَّيْنِ، لا يَصْلًحُ أَمْرُ
الدِّينِ والدُّنْيا إلَّا بِهِما، ذَكَرَهُمَا النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم
بِقَوْلِهِ: ( أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ،
والسَّمْعِ والطَّاعَةِ، وإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ ). فإنَّه بِالتَّقْوى يَصْلُحُ أَمْرُ الدِّينِ.
وبالسَّمْعِ والطَّاعَةِ وَلُزُومِ الجَماعَةِ يَسْتَقِيمُ لِلناسِ أَمْرُ
دُنْياهُمْ. اللهمَّ اجْمَعْ كَلِمَتنا، وأَلِّفْ بَيْنَ
قُلُوبِنا، واجْعَلْنا هُداةً مُهْتَدِين، اللهم أعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ
وَحُسْنِ عِبادِتِك، اللَّهم أَوْزِعْنا أَنْ نَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ
عَلَيْنَا وَعَلَى والِدِيْنا، وَأَنْ نَعْمَلَ صالِحًا تَرْضاه، يا رَبَّ
العالَمِين.
اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا
مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ
خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الّذِي هُوَ
عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا،
وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الحَيَاةَ
زِيَادةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ
شَرٍّ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ
وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أَحوالَ
الْمُسْلِمِيْنَ، اللهُمَّ ارْفعْ البَلاءَ عَن الْمُستضعفينَ مِن الْمُؤمِنين فِي
كُلِّ مَكانٍ، اللهُمَّ احِقنْ دماءَ الْمُسلِمِين يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ
عَليكَ بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ وَيُقَاتِلُون
عَبادَك الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ
زَلْزِل الأرضَ مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ
العذابِ يا قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ بلادَنا مِن كَيدِ الكَائِدِينَ
وعُدْوانِ الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا بِتَوفِيقِك،
وَأَيِّدْهُم بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن أَنصارِ دِينِك، وَارزقْهُم البِطانةَ
الصَّالحةَ النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ
لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ
مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|