أولو
الألباب
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد،
أيها الناس: اتقوا الله تعالى, وابْذُلُوا
أسبابَ صلاحِ قُلُوبِكُم, واعلمُوا أَنَّ اللهَ تعالى مَدَحَ في كِتابِهِ أُولِي
الأَلْبابِ, وبَيَّنَ أنَّهُم هُمْ أَهْلُ التَذَكُّر والاعْتِبارِ والاستِفادةِ,
وأنَّهُمْ خَيْرُ عبادِ الله.
وهذا الوصْفُ العظيمُ لا يَنْطَبِقُ على
كُلِّ أَحَد, ولَيْسَ كُلُّ ذكِيٍّ أو ماهِرٍ أو مُثَقٌّفٍ أو مُخْترِعٍ أوْ
صاحِبِ مالٍ أوْ مَنْصِبٍ, يَكُونُ مِنْ أُولِي الألبابِ. فإنَّ أولِي الأَلْباب:
هُمْ أصحابُ العقولِ الراجِحة, والقُلُوبِ الحَيَّةِ السليمة, الذين ذكَرَ اللهُ
تعالى أوصافَهُم في كتابِه, وأثْنَى عليهِم وسمَّاهُم أُولِي الألباب. فَمَنْ
أرادَ الفَوْزَ بِهذا الوَصْفِ الشَّريف, فَلْيَنْظُرْ إلى صفاتِهِم في كتابِ
اللهِ, وَلْيَعْرِضْها على نَفْسِه.
فَأُولُو الأَلْبابِ: هُم الذين يَنْظُرُونَ
إلى آياتِ اللهِ الكونِيةِ بِقُلُوبِهِم لا بِمْجَرَّدِ الانْبِهارِ والرُّؤيةِ
البصَريَّة فقط, كَمَا هي حالُ مَنْ يُسَمَّونَ بِعلماءِ الفضاء. وإنما
يسْتَدِلُّون بِما يَرَوْن مِنْ آياتِ اللهِ الكَونيَّة على تَعْظيمِ الله,
وَوُجوبِ توحيدِه, والحِكْمَةِ مِن خَلْقِ الخَلْق, والإيمانِ بِالرُّسُلِ,
والبَعْثِ بعْدَ الموتِ والحسابِ. قال تعالى: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ
* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ
هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا
يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ *
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ).
وأُولُو الأَلْباب: هُمُ الذينَ يَسْعَونَ
لِتَطبيقِ الحُدُود, ويُدْرِكُونَ فائِدَتَها وأَسْرارَها وآثارَها في الدنيا
والآخِرة. بِخِلافِ مَنْ يَعْتَرِضُون عليها مِمَّن يُنادُون بِحُقُوقِ الإنسان
والتسامُحِ والدِّيمُقْراطية, الذين يُعْتَبِرُون تَطبيقَ الحُدُود التي أَمَرَ
اللهُ بها وحْشِيَّةً وغيرَ إنسانِيَّة. ولذلك لَمَّا ذَكَرَ اللهُ آياتِ القِصاص,
خاطَبَ أولِي الألبابِ فقال: ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي
الأَلْبَابِ ), وأما مَنْ يَعْتَرِضُون عليها ويُنادُون بِحُقُوقِ الإنسان
والتسامُحِ والدِّيمُقْراطية, فَلَيْسُوا مِن أولِي الألباب, لأنهم يُعْتَبِرُون
قَتْلَ القاتِلِ, وجَلْدَ الزاني, ورَجْمَ المُحْصَنِ وقَطْعَ يَدِ السارِقِ,
وساِرَ ما يَتَعَلَّقُ بِتَطبيقَ الحُدُود التي أَمَرَ اللهُ بها وحْشِيَّةً وغيرَ
إنسانِيَّة.
وأُلُوا الألباب: هُم أَهْلُ خَشْيَةِ الله,
وهُمْ أَهْلُ الوَفاءِ بالعُهُودِ والوُعُود, المُجْتَنِبون للغَدْرِ والخيانة,
الذينَ يَصِلُون الأرحامَ, المُحافِظونَ على الصلاةِ, المُنْفِقُون في وُجُوه
الخيرِ سِرًّا وعَلانِيَة. قال تعالى: ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو
الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ
الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا
ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ
أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ).
وأُولُو الألباب: هُمُ المُنْتَفِعُون
بالذِّكْرَى, المُسْتَفيدُون مِن الأدِلَّةِ الشَّرْعيَّة, والمَواعِظِ
القُرْآنِيَّةِ والنَّبَوِيَّة, بَلْ إنَّ بَعْضَ الآياتِ في كتابِ الله, حَصَرَتْ
الانتِفاعَ عليهِم, كما قال تعالى: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
), وقال تعالى: ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ). ولذلك نَجِدُ الكثيرَ
مِنَ الأدِلَّة الآمِرةِ بالتقوى والتَّزَوُّدِ بالأعمالِ الصالِحَةِ, تُخاطِبُ
أولِى الألباب وتَخُصُّهُم بذلك, كما في قولِه تعالى: ( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ
خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
وَاتَّقُونِ
يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ), وقولِه تعالى: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي
الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ).
فيا له من وصف شريف, نسأل اللهَ أن
يُزَيِّنَنا به, ويَجْعَلَنا من أهلِه.
باركَ
اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ
الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى
تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَعْظِيماً
لِشَأَنِهِ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ
وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عباد الله: لقد أرْشَدَ اللهُ تعالى إلى
أَهَمِّيَّةِ التَّمْيِيزِ بينَ الطَّيِّبِ والخبيث, وخَلَقَ المُتَضادَّاتِ في
هذه الحياةِ, فَخَلَقَ الطيِّبَ والخبيثَ, والمُؤمِنَ والكافِرَ, والطاعةَ
والمَعْصِيَةَ, والضارَّ والنافِعَ, والحلالَ والحرامَ. كُلُّ ذلك: لِيَتِمَّ
الابتلاءُ والامتحانُ لِلْعِبَاد. فَمَن مَيَّزَ بَيْنَ هذه المُتضاداتِ وفَعَلَ
ما أَمَرَ اللهُ به, فَقَدْ أَفْلَحَ ونَجَحَ في الامتِحان, وصارَ مَعَ
الطيِّبِين, ومِنَ الذين تَتَوَفَّاهُم الملائِكَةُ طيِّبين. ومِنِ عَجيبِ الأمْرِ
أَنَّ اللهَ تعالى, لَمَّا قال: ( قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ
وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ), وَجَّهَ الخِطابَ لِأُولي الألبابِ
فقال: ( فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ).
لأنَّهُم هُمُ الذين يُؤْبَهُ لَهُم, ويُرْجُى أن يكونَ فيهِم الخير. ولأنَّهُم لا
يَقِيسُون الأُمُورَ بالكثرةِ كما هي حالُ أكثرِ الناس, الذين يَتَأثَّرُون
بالكثرةِ حتى لو كانت فاسدة. فإنَّ أولِي الألبابِ يَدُورُون مع الحقِّ
والطَّيِّبِ ولو كان قليلاً, ويَتَجَنَّبُون الخَبيثَ ولو كانَ كثيراً, وتَبِعَهُ
أكثرُ الناس. ولذلك قال تعالى: ( وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ). أي:
إيَّاكَ أنْ تَغْتَرَّ بِهِ ولو كان كثيراً شائِعاً.
اللهم
أرنا الحق حقا, حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه يا ذا
الجلال والإكرام، اللهم زيّنا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين، اللهم أصلح
أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة
يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى
الله عليه وسلم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة
واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احقن
دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل
مكان، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين،
اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم عليك بالكفرة
والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين، اللهم عليك بهم فإنهم لا
يعجزونك، اللهم زلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط عليهم مَنْ يسومهم سُوء
العذاب يا قوي يا متين، اللهم احفظ بلادنا مما يكيد لها، اللهم احفظ لهذه البلاد
دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها، وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين،
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك
سميع قريب مجيب الدعوات، ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها
هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|