شكر الله على نعمه
الحمد لله الذي أنعم علينا الإسلام والإيمان والإحسان, الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمه الظاهرة والباطنة, لا نحصي ثناءً عليه, هو كما أثنا على نفسه, نحمده حمداً كثيراً, وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه, وأتباعه, ومن سار على سنته وتمسك بهديه إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد: أيها المسلمون:
لقد أنعم الله علينا بنعم عظيمة, أعلاها نعمة الإسلام, قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ{3}} فاطر.
وقال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {53}} الأنفال.
عباد الله:
إنكم تعيشون في نعم عظيمة لم تذكر في تاريخ الأمم قبلكم, أمن في الأوطان, وصحة في الأبدان, ووفرة في الأموال, وراحة في كل متطلبات الحياة, ومخترعات باهرة؛ قربت كل بعيد, ووفرت لكم كل جديد, تأكلون أصناف الملذات وتلبسون أفخر الثياب, وتركبون المراكب الفخمة المريحة التي تقطع بكم المسافات البعيدة في أسرع وقت ممكن, وتسكنون القصور المشيدة, التي تتوفر فيها كل وسائل الراحة من تبريد, وماءٍ عذب متدفق, وإنارة واضحة, وأثاث فخم, وفرش وثيرة, ووسائل مواصلات تتصلون بواسطتها بمن تريدون في أقصى الأرض وأدناها, وتملكون الأموال الطائلة, والثروات الضخمة, هذا بعض النعم الظاهرة, وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ().
فهل قابلنا هذه النعم بالشكر والاعتراف لمسديها, وهو المولى سبحانه الذي قال: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ{7}} إبراهيم.
أم قابلناها بالمعاصي والتمرد على أوامر الله, بل وبكفرها ببعض الأحيان, وذلك بإهانتها وعدم المبالاة بها, ونسبتها في بعض الأحيان إلى جهودنا الشخصية.
أيها الناس:
إن النعم كما قال بعض العرفين: ( ضيف إن أكرمته وإلا ارتحل), فحافظوا عليها, واعلموا أنه ليس بينكم وبين الله عهد على إدامتها عليكم؛ إلا بالشكر, واحذروا من عواقب الفريط فيها؛ فإن سلبها سريع, وكرُ الله بالعاصين واقع.
أيها الناس:
إن الناس يُتَخَطفون من حولكم, ويموتون جوعاً وعطشاً, وحفاة عراةً, وأنتم فيما أنتم فيه من النعم, فقيدوا النعم بالشكر, واعترفوا بالتقصير, ولا يكفي الشكر باللسان؛ بل لا بد من عمل يبرهن صحة هذا الشكر.
أيها المسلمون:
إن عواقب كفر النعم خطير, قال تعالى:{ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ {112}} النحل.
ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم, فإذا تنكر الناس لنعم الله بدلوا بالنعمة نقمة, وبالأمن خوفاً, وبالغنى والشبع فقراً وجوعاً, قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ {28} جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ {29}} إبراهيم.
أيها الناس:
لقد كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أكثر الناس شكراً لله عز وجل وهم القدوة, فقال الله سبحانه عن نوح: إنه كان عبداً شكوراً, وذكر سبحانه قول داود وسليمان عندما أتاهم العلم:" الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين", ولما رأى سليمان عظمة ما أتاه الله من ملك قال:" لرب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى التمرة على الأرض فيأخذها, ويقول:" لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها" متفق عليه.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة على فراشي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها", كل ذلك من شكره وحفظه لنعم ربه عليه الصلاة والسلام, ولقد كان يقوم حتى تتفطر قدماه, فتقول له عائشة رضي الله عنها: لم تفعل ذلك يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول:" يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً".
عباد الله: هؤلاء هم القدوة, فاقتدوا بهم في شكر النعم والحفاظ عليها.
أيها المسلمون:
لقد كفر بنعمة الله وجحدها أقوامٌ, فجعلهم الله عبرة تضرب هم الأمثال, فهذا قارون, قال الله تعالى عنه :{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ {76} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ {77} قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ{78}}القصص.
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ{81}}القصص.
وهذا فرعون وقومه لما طغوا, قال الله تعالى فيهم :{ كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {25} وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ {26} وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ {27} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ {28} فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ{29}} الدخان.
وهؤلاء قوم سبأ , قال الله تعالى فيهم :{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ {15} فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ {16} ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ {17} وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ {18} فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ {19}} سبأ.
وهذا المعتمد بن عباد, ملك الأندلس, ملك من ملوك المدائن والحصون والمعاقل, والقناطير المنقطرة من الذهب والفضة, والخيل المسومة, والأنعام والحرث, مالاً يعلمه الله, ولكنَّ نعمته لم تدم, وزال كل ما يملك, حتى إن بناته بعد ذلك يغزلن للناس بحثاً عن لقمة العيش, دخلن عليه يوماً في ثياب رثة وحالة سيئة, فصَدَعنَ قلبه وأخذه البكاء.
أيها المسلمون:
قابلوا النعم بالشكر والحمد والثناء على الله بما هو أهله, والحذر من الاتصاف بصفات أهل الأشر والبطر الذين يقابلونها بالكفر, { كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى{6}}العلق.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :{ وَالضُّحَى {1} وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى {2} مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى {3} وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى {4} وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى {5} أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى {6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى {7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى {8} فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ {9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ {10} وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ{11}}الضحى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, إنه تعالى كريم ملك رؤوف رحيم.
|