سلامة الصدر
الحمد لله الكريم الرءوف الرحيم المجيد, والحمد لله الذي بحمده تستفح أبواب المزيد, نحمده كما لجلاله, وكما ينبغي له من التحميد, ونشهد أن لا إله الله العزيز الحميد , شهادة ننجو بها من الفزع الأكبر في يوم شديد ونشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير الشهيد اللهم فصل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أئمة العدل والتوحيد. أما بعد:
القلب السليم ..هذا المخلوق العجيب... هذه المضغة التي تقوم بدور كبير في الجسم.. وليس العمل المهم للقلب أن يضخ الدم من وإلى القلب, ولكن العمل الأهم هو أن يكون سليماً مخبتاً لله تعالى.. لأن القلب السليم الخالي من الغش هو الذي ينجي صاحبه يوم القيامة كما قال سبحانه وتعالى على لسان نبيه وخليله إبراهيم: ( وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء: ٨٧ – ٨٩
والقلب السليم كما يقول ابن القيم رحمه الله : ( القلب السليم هو الذى سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة فسلم من كل آفة تبعده من الله وسلم من كل شبهة تعارض خبره ومن كل شهوة تعارض أمره وسلم من كل إرادة تزاحم مراده وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله) [ الجواب الكافي – 127].
وبعض الناس يظن أن سلامة القلب تكمن في سهولة غشه وخداعه والضحك عليه , وعدم معرفته الخير من الشر , وليش الأمر كذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( القلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به ) [ مجموع الفتاوى -10/302].
ويزد ابن القيم رحمه الله هذه المسألة إيضاحاً فيقول: (الفرق بين سلامة القلب والبله والتغفل أن سلامة القلب تكون من عدم إرادة البشر بعد معرفته فيسلم قلبه من إرادته وقصده لا من معرفته والعلم به وهذا بخلاف البله والغفلة فإنها جهل وقلة معرفة وهذا لا يحمد إذ هو نقص وإنما يحمد الناس من هو كذلك لسلامتهم منه) [ الروح 220].
أيها الأخوة في الله, لقد جاء رسولنا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل في مجتمع غلبت عليه العداوة والبغضاء والشحناء ولم يبق فيه إلا أخوة المادة والمصلحة...ذكر ابن إسحاق: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كلم من كلم من الخزرج في الموسم وعرض عليهم الإسلام فقبلوا قالوا : (إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن، يجمعهم الله بك ) وفعلاً جمع الله به القلوب.. حتى قال لهم صلى الله عليه وسلم: (( يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي)).
لقد حرص الإسلام حرصاً شديداً على أن تكون هذه الأمة أمة واحدة في قلبها وقالبها وليس بين أفرادها إلا المحبة الإخاء والتناصح البناء الذي يكون فيه إصلاح الخطأ مع صفاء القلوب وتآلفها دون الوقوع في أغلال الغل ومصائد الشيطان الأخرى من التباغض والتحاسد ثم ما يجره هذا من التدابر والتقاطع الهجر. قال صلى الله عليه وسلم : " لا تباغظوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث".
وقال عليه الصلاة والسلام : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ".
وسلامة الصدر التي نتحدث عنها وصلاح ذات البين أمر من لوازم التقوى , ولهذا قرن الله عز وجل بينهما في قوله : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الأنفال: ١
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا تحريج من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم ) .
ولا شك أن التواد والتحاب بين الناس لا يمكن أن يستمر أو يدوم إلا بسلامة الصدور وخلوها من كل الأمراض والمصائب, ولقد استطاع المسلمون الأولون أن يصعدوا إلى أعلى الدرجات وأن يتربعوا على عرش المجد مدة طويلة بسبب سلامة صدورهم وخلوها من الأمراض... الأمراض الخطيرة التي لا علاج لها إلا بالعودة إلى منهج الله عز وجل.. أما أمراض القلوب العضوية فقد استطاع الطب أن يجد لها علاجاً.. حتى لو استدعى الأمر القيام بعملية زراعة القلب...!
أما المرض الأخطر ... فهو مرض موت القلب .. وإذا مات صاحبه حل النار والعياذ بالله تعالى: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) الحج: ٤٦.
نسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا وأن يطهرنا من الأغلال إنه جواد كريم......
|