شرح حديث عمر رضي الله عنه
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمد عبده ورسوله, صلى الله عليه وسلم, وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أيها الناس :
روى الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه, قال : بينما كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم, إذ دخل علينا رجلٌ شديد بياض الثياب, شديد سواد الشعر, لا يرى عليه أثر السفر, ولا يعرفه منا أحد, فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فأسند ركبتيه إلى ركبتيه, ووضع كفيه على فخذيه, فقال : يا محمد, أخبرني عن الإسلام, قال :" أن تشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله, وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان, وتحج البيت, إن استطعت إليه سبيلاً. قال : صدقت, فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال أخبرني عن الإيمان, قال: أن تؤمن بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وتؤمن بالقدر خيره وشره, قال : صدقت, قال: أخبرني عن الإحسان, قال: أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه, فإنه يراك. قال: صدقت, قال: أخبرني عن الساعة, قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل, قال: أخبرني عن أمارتها, قال: أن تلد الأمة ربتها, وأن ترى الحفاة, العراة, العالة, رعاء الشاء يتطاولون في البنيان.
ثم انطلق, فلبث ملياً ثم قال لي: يا عمر, أتدري من السائل ؟ قلت الله ورسوله أعلم قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
أيها المؤمنون :
إن هذا الحديث عظيم الشأن, لاشتماله على شرح الدين كله, ولاشتماله على مراتب الدين الثلاثة: وهي: الإسلام, والإيمان, والإحسان.
أما الإسلام, فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالأعمال الظاهرة, التي هي أعمال الجوارح, فأول ذلك الشهادتين, شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمد رسول الله, فمن قالها, صار مسلماً حكماً, وأما من أكمل الإتيان بمباني الإسلام صار مسلماً حقاً(), ومن ترك الشهادتين خرج من الإسلام.
والإسلام يدخل في مسماه أمور كثيرة, ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " .
وفيهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم, أي الإسلام خير, قال:" تطعم الطعام, وتقرأ السلام على من عرفت ومن لا تعرف".
قال حذيفة رضي الله عنه: الإسلام ثمانية أسهم, الإسلام سهم, والصلاة سهم, والزكاة سهم, والجهاد سهم, وصوم رمضان سهم, والحج سهم, والأمر بالمعروف سهم والنهي عن المنكر سهم, وخاب من لا سهم له .
وترك المحرمات داخل في مسمى الإسلام أيضاً, لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ".
ويدل على هذا أيضاً ما أخرجه الإمام أحمد, والترمذي, والنسائي, من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً, وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة, وعلى الأبواب ستور مرخاة, وعلى باب الصراط داعٍ يقول: أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتفرجوا, وداعٍ يدعو من جوف الصراط, فإذا أراد يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه, والصراط الإسلام, والسوران حدود الله تعالى, والأبواب المفتحة محارم الله تعالى, وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله عز وجل, والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم "
زاد الترمذي :" والله يدعوا إلى دار السلام, ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".
أما المرتبة الثانية: فهي مرتبة الإيمان.
قال تعالى : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {177} }البقرة.
وقال تعالى: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}285: البقرة.
وقال تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {49}}القمر.
وعندما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال : " أن تؤمن بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, والبعث بعد الموت ( أي اليوم الآخر ), وتؤمن بالقدر خيره وشره ".
أيها المؤمنون :
إنه لمن الواجب على كل مسلم أن يسعى إلى زيادة إيمانه, ويحرص على ذلك أشد الحرص, قال تعالى : { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {124}}التوبة.
والإيمان مُستقرهُ القلب, فإذا وجد الإيمان فيه, أصبح لدى المؤمن حادياً يحدوه إلى الدار الآخرة, وشوقاً إلى لقاء ربه ومرضاته, والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية , والإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني, ولكن ما وقر في القلب, وصدقه العمل .
أيها المؤمنون :
ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وستون شعبة, ( وفي رواية لمسلم بضع وسبعون شعبة) فأفضلها قول لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ".
فوجْلُ القلوب من ذكر الله, وخشوعها عند سماع ذكره وكتابه من الإيمان.
وتحقيق التوكل على الله عز وجل من الإيمان, وخوف الله سراً وعلناً والرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً, كل ذلك من الإيمان 0
وأبواب الإيمان كثيرة :
منها: استشعارُ قرب الله من العبد, ودوام استحضاره, وإيثار محبة الله ورسوله على محبة ما سواهما, ومن الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله, والعطاء لله, والمنع لله, لقوله صلى الله عليه وسلم : " من أعطى لله, ومنع لله, وأحب لله, وأبغض لله, فقد استكمل الإيمان ".
ومن الإيمان حسن الخلق, قال صلى الله عليه وسلم: " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ".
وسماحة النفوس بالطاعة المالية, والبدنية, من الإيمان والاستبشار بعمل الحسنات والفرح بها, والمساءة بعمل السيئات, والحزن عليها من الإيمان, وكثرة الحياء وحسن الخلق, ومحبة ما يحبه لنفسه لإخوانه المؤمنين, والمعاملة الطيبة من الإيمان, ومواساة المؤمنين, وخصوصاً الجيران من الإيمان ().
ولزوم جماعة المسلمين, ومناصحة ولاة أمورهم, والعمل للإسلام والمسلمين , والدعوة إلى الله, من أعظم شعب الإيمان .
أما المرتبة الثالثة من مراتب الدين: فهي مرتبة الإحسان,
وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
قال تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ {217} الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ {218} وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ {219} }الشعراء.
ويقول تعالى: { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيه}61:يونس.
ويقول تعالى: { إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً {1}}النساء.
فيا عبد الله, اعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه, فإنه يراك, فلو تأملنا هذه الكلمات, لخشعت الجوارح وخضعت وسكنت, ولخافت واضطربت القلوب, خشيةً لله ورهبة, لعلمك أن الله مطلع عليك, وناظر إليك, وأنك بادٍ له ظاهرٌ له, لا يخفى على الله شأن من شؤونك , ولا أمر من أمورك .
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن مـا تـخــفــى عـلـيـه يـغـيــب
أيها المؤمنون:
الإحسان مرتبة عظيمة, لا يوفق إليها إلا موفقٌ حافظَ على طاعة الله سراً وعلناً .
فهي يقين الإنسان على الالتزام بما فرض الله , واجتناب ما حرم الله, والإحسان يقين على الخشوع في الصلاة, فيجعلها خفيفة على المسلم, فلا يسأم ولا يمل.
أيها المؤمنون:
إن عدم مراقبة الله تعالى يؤدي إلى ترك الواجبات, وفعل المحرمات, والغش في المعاملات, فالله الله عباد الله, راقبوا الله في سركم وعلانيتكم, واعلموا أن الله عليكم رقيب.
واعلم يا عبد الله أن المراقبة قد شددت عليك كثيراًً, فأنت مراقب في نومك, ويقظتك, في غدوك, ورواحك, في حركتك, وسكونك.
أرأيت يا عبد الله كيف ضيق عليك الخناق, أرأيت يا عبد الله كيف شددت عليك المراقبة, فبالله عليك قلّي كيف تستبيح لنفسك أن ترتكب ما حرم الله عليك؟
أم كيف تستبيح لنفسك أن تترك ما فرض الله عليك ؟
ألا تستحي من ربك أن يراك حيث نهاك, وأن يفقدك حيث أمرك ().
وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {7}}المجادلة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ........
|