الإصلاح بين الناس فضله
وضوابطه
19/ 2/ 1441هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ) .(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر
الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة أما بعد. فاتقوا
الله عباد الله
أيها الاخوة المسلمون: لقد اثبت الله تعالى لنا في كتابه العزيز امرا قدريا واقعا
وحاصلا بين الناس, وليس بوسع أحد من الناس الهروب منه او الفكاك عنه, الا وهو
الخلاف والاختلاف ووقوع الشحناء والعداوات بين بني البشر على اختلاف وتنوع تلك
الخلافات وعلى مستوى الاسر والافراد والجماعات بل والدول والشعوب كل
له وفيه نصيب منها فقد قال تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ
أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ
* إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) وقد قال الاول : ولا يسلم المرء
من ضد ولو * حاول العزلة في راس جبل .
ومن
أراد الحديث عن خلافات البشر فيما بينهم وتتبع صغارها وكبارها فليقطع مطامعه عن
الوصول الى منتهاها، ولعلنا في هذه الدقائق – أيها الاخوة- نتحدث عن أمر داخل في
الموضوع يهمنا معرفته بالدرجة الاولى ألا وهو: (
الاصلاح بين المتخاصمين من الناس ), فإن هذا الامر من الاعمال
العظيمة الجليلة التي حث عليها الإسلام ورغب فيها، قال تعالى: ﴿ لَا
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ
مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ
اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن
الذي يصلح بين الناس يكتب له من الاجر ما الله به عليم، فقد روى الإمام أحمد في
مسنده من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ
وَالصَّدَقَةِ؟" قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ،
فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ". وفي رواية: قال صلى
الله عليه وسلم "لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ
الدِّينَ"
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ
يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ؛ تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ،
....الحديث.
والعدل
والصلح بين الاثنين شامل لكل المختلفين من الاقارب او الاباعد, او بين الزوجين,
وبين الوالدين وابنائهم, او الاخوة فيما بينهم, او الاقارب والارحام, او القبائل,
او الجيران, او من يجمعهم عمل واحد كالموظفين في مكان عملهم, او العمال, او
اصحاب الصنعة الواحدة او التجارة الواحدة .... وهكذا هو بين الناس عموما.
ولو
لم يكن الخلاف واقع وحاصل لما ذكره الله تعالى في كتابه ففيما يقع بين الزوجين قال
تعالى فيه: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ وفيما يقع بين المؤمنين انفسهم قال تعالى: ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا
- فاثبت لهم الايمان وهم مختلفون بل وهم يتقاتلون- فأمر بالإصلاح
بينهم – فقال سبحانه : فاصلحوا بينهما ......﴾ وقد طبق ذلك النبي صلى الله
عليه وسلم بنفسه, فقد روى البخاري في صحيحه أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا
بالحجارة، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اذْهَبُوا بِنَا
نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ"
وأصلح صلى الله عليه وسلم بين رجلين متخاصمين في ديْن مالي بينهما, فقد روى
البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنهما قالت: سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب, عالية أصواتهما، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه
في شيء، وهو يقول: والله لا أفعل، فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللَّه لَا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟"
فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّه، وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ.
وفي حديث كعب بن مالك رضي الله عنه –المتفق عليه- أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي
حَدْرَدٍ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي
الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ الله صلى
الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ الله صلى الله
عليه وسلم حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ وَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ:
"يَا كَعْبُ"، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله، فَأَشَارَ بِيَدِهِ
أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ، قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ
الله، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "قُمْ فَاقْضِهِ" ومن
عظيم أمر الصلح بين الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص بشيء من الكذب الا
في امور معينة منها الاصلاح بين الناس ففي الصحيحين من حديث أم كلثوم رضي الله
عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي
يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا". زاد
مسلم قالت: "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس كذبًا إلا في ثلاث: الحرب،
والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها". ولكن لابد من مراعات
هذا الامر جيدا فيوقف فيه على قدر الضرورة او الحاجة فقط وتحقيق المصلحة ويكون
بالتورية لا بالكذب المحض, وشرط الا يترتب عليه مفسدة .
وما
اكثر المصلحين الاخيار في مجتمعنا, وقد نفع الله بهم أي نفع, فلنحرص جميعا ان نكون
منهم فإن الاصلاح نفع متعد وخير الناس انفعهم للناس.
فاللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا, واهدنا واهدلنا واهد بنا
واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، والحمد لله رب العالمين والصلاة
والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين .
الخطبة
الثانية
الحمد لله رب العالمين,
ولي الصالحين, ومعين المصلحين, وأصلي وأسلم على إمام وقدوة المصلحين, سيد الاولين
والآخرين, نبينا محمد وعلى آله وصحابته اجمعين ومن تبعهم بإحسان الى
يوم الدين:
ايها الاخوة المسلمون: يوجد في المجتمع اناس كثيراً ما يدخلون في عمليات إصلاح بين
الناس, حريصون على الخير, يظنون في انفسهم اهلية للإصلاح بين الناس, كما يظن بهم
البعض ذلك, ولكنهم لطالما افسدوا اكثر مما اصلوا , ومنهم من لو سلم الناس من
دخوله بالإصلاح لكان خير لهم, فمنهم من دخل في الاصلاح ففاقم المشكلة وصب
الزيت على النار وحدث بسببه من الشر والفساد ما لو كانوا على حالهم قبل دخوله لكان
الامر اهون ... ولكان خيرا لهم.
إن الاصلاح بين الناس –ايها الاخوة- ليس بالأمر الهين ولعظم
الامر يجب ان تراعى فيه أمور هي في غاية الاهمية:
أولها
وأهمها: لابد من اصلاح النية والقصد لدى الساعي في الصلح وان يستمر صلاح النية
مصاحبا للقضية حتى النهاية, فإن من الناس الذين يزعمون انهم يصلحون يدخلون
بنية صالحة في بداية الامر فما يلبثون إلا أن تتغير النية لديهم بمجرد أن يسمعوا
من المتخاصمين او احدهما كلاما جارحا او اهانة او نقدا فتتحول النية وتتغير
ويدخل فيها الانتصار للنفس وفرض الآراء والتعصب والتحيز ... وغير ذلك، وهذا
من الخطأ العظيم الفادح لدى بعض من يدخل ميدان الاصلاح .
ومن الأمور المهمة ايضا: أن يعرف من يريد الاصلاح قدر نفسه عند المتخاصمين أهو
مقبول لدى الجميع أم لا؟ فإن كان مقبولا مرضيا دخل في الاصلاح وإلا أحجم
وابتعد وأعتذر وترك المجال لغيره .
ومن الامور المهمة: أن يدرك من يريد الاصلاح الفوارق بين كون نفسه مصلحا
او حاكما او محاميا الى غير ذلك, فإن البعض من المصلحين يتقمص دور الحاكم والقاضي
وحتى المنفذ وينسى انه مصلح يجب عليه ان يقف من الاطراف المتخاصمة على مسافة
واحدة لايحس به احد انه مع الطرف الآخر ضده, بل يلزم الحياد حتى النهاية, كما عليه
البعد عن استهجان والاستهتار بالآراء والتصرفات واحتقار الخصوم او احدهم.
ومن الامور المهمة: أن يكون من يريد الاصلاح ملما بالقضية من
جميع جوانبها عالما بالأحكام الشرعية والعرفية, يسمع من جميع الاطراف ولا يهمش احدا, ولايميل مع احد على حساب احد, وإلا لكان الامر إفسادا وليس
اصلاحا.
ومن الامور المهمة ايضا: ان يكون من يريد الاصلاح ذا سر قوي أمين لايفشي اسرار
الناس ولا يتحدث بها في المجالس, فإن بعض ممن يدخلون ميدان الاصلاح يتصدرون
المجالس فيتكلون بالقضايا التي دخلوا فيها بإصلاح فيذكرون اسرار الناس
ويفضحونهم بين اقاربهم وغيرهم, وهذا ليس اصلاح بل هو إفساد في الارض.
ومن الامور المهمة ايضا: أن يتحرى من يريد الاصلاح مناسبة الزمان والمكان والحال للمتخاصمين
حتى تتحقق المصلة ويحصل الصلح.
ذكرت بعض الامور التي تتعلق بالساعين في الاصلاح انفسهم, واما بالنسبة لمن
لديهم خلافات مع الاخرين سواءً كانوا اقارب او غيرهم فعليهم ان يضيقوا دائرة
الخلاف فيما بنهم الى اقصى درجاتها, وان يحشروا الخلاف في اضيق الزوايا, والا
يوسعوا القضية حتى تستدعي تدخلات خارجية, فإذا لزم الامر إلا الى دخول احد يُصلح
فليختاروا من تتوفر فيه الامور التي ذكرت من قبل, وليعلموا انهم متى ما اردوا
الاصلاح بصدق وبذلوا السبل الصحيحة المشروعة فيه ﴿ فإن الله لا يضيع اجر
من احسن عملا﴾ ﴿ والصلح خير ﴾ ﴿والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون ﴾
فاتقوا الله عباد
الله, واصلحوا انفسكم, واصلحوا بين عباد الله, وفق ما امر الله, واسالوا الله
التوفيق والعون, وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة محمد بن
عبد الله كما امركم بذلك الله فقال جل في علاه: ﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا
ايها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما
صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد, اللهم ارض عن سائر الصحابة
اجمعين وآل البيت الطاهرين ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين, اللهم اصلح احوال
المسلمين في كل مكان وول عليهم خيارهم واكفهم اللهم شر اشرارهم, اللهم آمن
المسلمين في دورهم واوطانهم واصلح ذات بينهم, واحفظهم واحقن دمائهم,
وردهم الى الحق ردا حميدا, اللهم وفق ولاة امورنا في بلادنا, اللهم اجعلهم خير
ولاة لخير رعية , واصلح لهم البطانة , واعنهم على الأمانة , واعزهم بالإسلام
واعز الإسلام بهم , اللهم اجعلهم فاعلين للخير آمرين به ومنتهين عن المنكر
ناهين عنه ,
اللهم اطفئ الفتن في بلاد المسلمين , وعم البلاد بالأمن
والامان يارب العالمين , ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب
النار , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه اجمعين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ نايف الرضيمان تجدها
هنا: http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=123
|