سنة الله في الضراء والسراء
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
فاتقوا الله تعالى حق التقوى, وعليكم بتلاوة كتاب الله ، وتدبره, والعمل بما فيه، فإنه ليس شيء أنفع للقلب في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل وجمع الفكر فيه على معاني آياته، فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقهما وأسبابهما، وغاياتهما، ومآل أهلهما .
عباد الله: ولنا وقفة يسيرة مع آيات عظيمة من كلام ربنا جل في علاه، لنأخذ منها العبرة والفائدة، قال تعالى في سورة الأعراف - بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم - :
{ وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) }.
يقول تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ } يدعوهم إلى عبادة الله وتوحيده، وينهاهم عن ما هم فيه من الشر الذي أعظمه الشرك، فلم ينقادوا له: إلا ابتلاهم الله { بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ } أي: بالفقر والمرض وأنواع البلايا { لَعَلَّهُمْ } إذا أصابتهم، أخضعت نفوسهم فتضرعوا إلى الله واستكانوا للحق.
{ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ } حوّلنا الحال من شدة إلى رخاء، ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية، ومن فقرٍ إلى غنى، ومن خوف إلى أمن، فَأدَرَّ عليهم تعالى بأنواع الأرزاق، ورفع عنهم البلاء ليشكروا على ذلك، فما فعلوا { حَتَّى عَفَوْا } أي: كثروا، وكثرت أرزاقهم وانبسطوا في نعمة الله وفضله، ونسوا ما مر عليهم من البلاء. { وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ } أي: هذه عادة جارية لم تزل موجودة في الأولين واللاحقين، تارة يكونون في سراء وتارة في ضراء، وتارة في فرح، ومرة في ترح، على حسب تقلبات الزمان وتداول الأيام، وحسبوا أنها ليست للموعظة والتذكير، ولا للاستدراج والنكير حتى إذا اغتبطوا، وفرحوا بما أوتوا، وكانت الدنيا، أسرّ ما كانت إليهم : أخذناهم بالعذاب{ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } أي: لا يخطر لهم الهلاك على بال، وظنوا أنهم قادرون على ما آتاهم الله، وأنهم غير زائلين ولا منتقلين عنه ولم يتفطنوا لأمر الله فيهم، ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين..
وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء، ويصبرون على الضراء، كما ثبت في صحيح مسلم: " عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ " فالمؤمن من يتفطن لِمَا ابتلاه الله به من السراء والضراء؛ ولهذا جاء في الحديث أخرجه أحمد وصححه الألباني: " لَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ أَوِ الْمُؤْمِنَةِ، فِي جَسَدِهِ، وَفِي مَالِهِ، وَفِي وَلَدِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ ".
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين, وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
فاتقوا الله وآمنوا به وحاسبوا أنفسكم .
عباد الله ثم قال تعالى بعد الآيات السابقة : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ }.
لما ذكر تعالى أن المكذبين للرسل يُبتلون بالضراء موعظة وإنذارا، وبالسراء استدراجا ومكرا، ذكر أن أهل القرى، لو آمنوا بقلوبهم إيمانا صادقا صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله تعالى ظاهرا وباطنا بترك جميع ما حرم الله، لفتح عليهم بركات السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم، في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كد ولا نصب، ولكنهم لم يؤمنوا ويتقوا { فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } بالعقوبات والبلايا ونزع البركات، وكثرة الآفات، وهي بعض جزاء أعمالهم، وإلا فلو آخذهم بجميع ما كسبوا ما ترك عليها من دابة. { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ... } .
ثم قال: { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى } أي: المكذبة، { أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا } أي: عذابنا الشديد { بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ } أي: في غفلتهم، وغرتهم وراحتهم.
{ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } أي: أي شيء يؤمنهم من ذلك، وهم قد فعلوا أسبابه، وارتكبوا من الجرائم العظيمة، ما يوجب بعضه الهلاك؟!
{ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ } حيث يستدرجهم من حيث لا يعلمون، ويملي لهم، { فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } فإن مَن أمِن مِن عذاب الله، فهو لم يصدق بالجزاء على الأعمال، ولا آمن بالرسل حقيقة الإيمان.
وهذه الآية الكريمة فيها من التخويف البليغ، على أن العبد لا ينبغي له أن يكون آمنا على ما معه من الإيمان , بل لا يزال خائفا وجلا أن يُبتلى ببلية تسلب ما معه من الإيمان، وأن لا يزال داعيا بقوله: ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) وأن يعمل ويسعى، في كل سبب يخلصه من الشر، عند وقوع الفتن، فإن العبد - ولو بلغت به الحال ما بلغت - فليس على يقين من السلامة.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا فى ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، وﻻ مبلغ علمنا، وﻻ تسلط علينا من ﻻ يرحمنا، اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت، خلقتنا ونحن عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، نبوء لك بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك شاكرين.. لك ذاكرين.. لك راغبين.. لك راهبين. اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، ويسر أمورنا، وطهر قلوبنا، واسلل سخيمة قلوبنا، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اجعلنا من الشاكرين لآلائك، الصابرين على بلائك، الناصرين لأوليائك. اللهم زدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا. اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين ، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم آمن روعاتهم واستر عوراتهم واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم ونعوذ بك أن يغتالوا من تحتهم، اللهم مكن لهم وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز. اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارزقهم بطانة الصلاح وأهل الخير، وأبعد عنهم أهل الزيغ والفساد، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات انك سميع قريب مجيب الدعوات. اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catsmktba-129.html
|