حق الجار
الحمد لله القائل: } وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّـٰحِبِ بِٱلجَنْبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا{ [النساء:36]، أحمده حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: ((جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه))، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، عليكم بوصية ربكم لكم، فقد قال عز من قائل: }وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ{ [النساء:131]، فاتقوا الله يا عباد الله، فإن خير الدنيا والآخرة بتقوى الله عز وجل.
أيها الإخوة المؤمنون، من الأمور التي توجب المحبة والتعاون بين الناس ومن مظاهر التراحم والترابط بين المسلمين ظاهرة مراعاة حقوق الجار، ولذلك ـ أيها الإخوة ـ اعتنى الإسلام بالجار ورعى حقوقه، بل أمر بالإحسان إليه وأوصى به، والأدلة على ذلك كثيرة جدًا.
وقبل أن نذكر الأدلة لنا وقفة يسيرة، لنتأمل ما عليه أكثر المسلمين مع جيرانهم، وإلى أيّ مدى وصلت الاستهانة بحقوق الجار عند بعضهم.
إننا نسمع ـ أيها الإخوة ـ ما يندى له الجبين مما يحدث بين بعض الجيران من تقاطع ومن تهاجر ومن تحاسد ومن بغضاء، وأمور ينبغي أن لا توجد في مجتمعات المسلمين، بل ـ أيها الإخوة ـ وصل التقصير والاستهانة بحق الجار إلى درجة أن الجار ـ في بعض الأحياء ـ لا يعرف جاره، نعم لا يعرف جاره الذي ليس بينه وبينه إلا جدار.
فما ظنكم ـ أيها الإخوة ـ بجيران لا يتعارفون، هل يؤدي بعضهم حق بعض؟! إذا كان الجار لا يعرف جاره هل تتوقعون بأن حقوق الجار سوف تراعى أو يقام بها؟! لا ورب الكعبة، إنما يحدث خلاف ذلك من إضاعة لحقوق الجار ومن إهمال لواجباته وتقصير بحقوقه.
أيها الإخوة المؤمنون، عندما نتأمل واقع بعض المسلمين مع جيرانهم ونستعرض النصوص الواردة التي تبين حق الجار إننا والله نزداد يقينًا وثقة بهذا الدين، فهو الدين الكامل، الدين الصالح لكل زمان ومكان، الدين الذي لا غنى لأحد عنه كائنًا من كان.
وإليكم أيها الإخوة الأدلة من الكتاب والسنة:
يقول الله عز وجل: } وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّـٰحِبِ بِٱلجَنْبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ{، ففي هذه الآية يأمر الله جل جلاله، يأمر بماذا؟ يأمر بالإحسان للجار مهما كان هذا الجار، سواء كان قريبًا أو ليس بينك وبينه قرابة، سواء كان صالحًا أو غير ذلك، فأنت مأمور بالإحسان إليه.
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد حث حثًا شديدًا على مراعاة حقوق الجار إلى درجة أنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه غلب على ظنه من كثرة ما يوصيه جبريل بالجار أن الله عز وجل سيقسم له من الإرث، ففي مسند الإمام أحمد عن رجل من الأنصار قال: خرجت مع أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم وإذا به قائم، وإذا رجل مقبل عليه، فظننت أن له حاجة، فجلست، فوالله لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أرثي له من طول القيام، ثم انصرف، فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي إليك من طول القيام، قال صلى الله عليه وسلم: ((أتدري من هذا؟)) قلت: لا، قال صلى الله عليه وسلم: ((جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، أما أنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام)). تأملوا ـ أيها الإخوة ـ هذه الوقفة الطويلة مع جبريل عليه السلام، كانت في الوصية بالجار.
أيها الإخوة المؤمنون، ويتلخص حق الجار في ثلاثة أمور هامة، من قام بها فقد وفى بحق جيرانه، وهي: كف الأذى عن الجار، والإحسان إليه، والصبر على إيذائه. هذه الثلاث إذا كانت فيك ـ يا عبد الله ـ فإنك من الذين يرعون حقوق جيرانهم:
الأولى: كف الأذى، فقد جاءت الأدلة مشددة في كف الأذى عن الجار ومحذرة كل التحذير، منها ما رواه أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من آذى جاره فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل)). وقد ربط صلى الله عليه وسلم عدم الإيذاء للجار بقضية الإيمان بالله واليوم الآخر، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)).
ونبه صلى الله عليه وسلم على عظم خطر إيذاء الجار على الأعمال الصالحة، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار وتفعل وتتصدق وتؤذي جيرانها بلسانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا خير فيها، هي من أهل النار))، قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة وتتصدق بأثوار أقط ولا تؤذي أحدًا ـ يعني: عملها قليل غير أنها لا تؤذي أحدًا ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي من أهل الجنة)).
فتأملوا ـ أيها الإخوة ـ خطورة إيذاء الجار، إيذاء الجار ليس بالأمر السهل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)) يعني: لا يأمن شروره.
فليحذر الذين يؤذون جيرانهم، وليتوبوا إلى الله ويستغفروه من هذا الذنب العظيم، وليتحلّلوا جيرانهم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار.
إن الذنب الذي يرتكب بحق الجار يضاعف إلى عشرة أضعاف، اسمعوا إلى قول نبيكم صلى الله عليه وسلم ، ففي الحديث عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه عن الزنا، فقالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لأن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره))، وسألهم عن السرقة قالوا: حرام حرمها الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لأن يسرق من عشرة أهل أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره)).
فأذى الجار ـ أيها الإخوة ـ مهما كان نوعه جريمة عظمى، وقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في كف الأذى عن الجار، ففي الأدب المفرد للبخاري تروي لنا عائشة رضي الله عنها أنها ذات ليلة صنعت للرسول صلى الله عليه وسلم قرصًا من شعير، تقول: فأقبلت شاة لجارنا داجنة ـ يعنى لا تجد حرجًا من الدخول في البيوت ـ فدخلت ثم عمدت إلى القرص فأخذته ثم أدبرت به، فبادرتها الباب ـ لا تجد رضي الله عنها غير هذا القرص وأخذته الشاة الداجنة ـ تقول: فبادرتها الباب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذي ما أدركت من قرصك، ولا تؤذ جارك في شاته)). إنه المثل الأعلى في كف الأذى عن الجار، حتى في شاته التي تتعدى على طعام الجيران.
أسأل الله لي ولكم علمًا نافعًا وعملاً خالصًا وسلامة دائمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا هو تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، وثاني حقوق الجار: الإحسان إليه، فكف الأذى عنه لا يكفي، لا يكفي أن تكف أذاك عن جيرانك فقط، إنما تكفّ أذاك عنهم وتحسن إليهم؛ لأن الإحسان حق من حقوق الجار، ففي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره))، فإكرامك لجيرانك دليل على إيمانك، وفي رواية يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره)).
وذكر لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الناس عند الله ليسوا سواء، وبين لنا أن خيرهم هو من فيه خير لجيرانه، ففي الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم: ((خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)).
فالإحسان إلى الجار أمر مطلوب حتى ولو كان شيئًا يسيرًا، بل حتى ولو كان كراع شاة أو مرق لحم، ففي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقرنّ جارة لجارتها ولو فرسن شاة))، وفي رواية: ((ولو كراع شاة محرقًا))، وفي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)). ففي هذا دليل على أهمية تعاهد الجار والإهداء إليه وتفقد أحواله وعدم الغفلة عن حاجته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع)).
أيها الإخوة المؤمنون، وآخر الحقوق: الصبر على أذى الجار.
أيها الإخوة، من المصائب الكبرى التي يصاب بها المسلم جار السوء، نسأل الله السلامة والعافية، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه في دعائه، يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقام، فإن جار البادية يتحول))، ودار المقام يعني: القرية والمدينة.
مصيبة ـ أيها الإخوة ـ عندما تبتلى بجار سيّئ، ولكن حتى وإن بليت فعليك أن تصبر، حتى ولو كان جارك جار سوء ويمتد سوؤه إليك فمن حقه أن تصبر عليه، تصبر عليه، وتحسن إليه، وتحتسب أجر ذلك عند الله جل جلاله، ففي الحديث عن مطرف بن عبد الله أن الله سبحانه يحبّ الرجل الذي كان له جار سوء يؤذيه، فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت.
فاتقوا الله يا عباد الله، وحافظوا على حقوق جيرانكم، وصونوا أعراضهم، الله الله في حفظ أسرار الجار، فإن حفظ سر الجار أمانة، وإذاعة ما يكره أن يذاع خيانة للأمانة، نسأل الله السلامة والعافية.
جعلني الله وإياكم من الذين يقومون بحقوق جيرانهم ويؤدون واجباتهم، إنه سميع مجيب.
اللهم وفقنا للقيام بحقوق جيراننا، وألف على ما يرضيك قلوبنا، واجعلنا إخوة متحابين متآلفين متوادين، يا رب العلمين.
اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين ، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم احمي حوزة الدين ، اللهم اجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا ، وسائر بلاد المسلمين ، اللهم آمنا في أوطاننا ، واستعمل علينا خيارنا ، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك يارب العالمين .
اللهم وفق إمامنا ، وولي أمرنا ، خادم الحرمين الشريفين لهداك ، واجعل عمله برضاك ، وارزقه البطانة الصالحة ، التي تدله على الخير وتعينه عليه ، واصرف عنه بطانة السوء يارب العالمين .
اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا بسوء ، أو بما لا يرضيك ، أو بما يخالف كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم ، اللهم اشغله بنفسه ، واجعل كيده في نحره ، واجعل تدبيره سببا لتدميره يا رب العالمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون . |