توديع العام
الحمد الله الواحد القهار, العزيز الجبار, يقلب الليل والنهار, تبصرة وذكرى لأولي العقول والأبصار, وكل شيء عنده بمقدار, عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
{ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ {10}}الرعد.
أحمده على إحسانه, وأشكره على عظيم فضله وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه, واستن بسنته إلى يوم الدين, أما بعد.
أيها الناس:
[ فإنكم تودعون عاماً ماضياً شهيداً, وتستقبلون عاماً مقبلاً جديداً, فليت شعري, ماذا أودعتم في العام الماضي؟ وماذا تستقبلون به العام الجديد؟ فليحاسب العاقل نفسه.]()
بماذا رحل عامه المنصرم؟ هل رحل وقد كتبت له الحسنات؟ ومحيت عنه السيئات؟ أم رحل بما فيه من الخطايا والآثام؟
قال الفاروق يوماً: ( أيها الناس: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا, وزنوها قبل أن توزنوا, وتأهبوا للعرض الأكبر.)( يومئذٍ تعرضون لاتخفى منكم خافيه).
أيها المسلمون:
تمر الأيام والشهور والأعوام وتنصرم, وبعض المسلمين في سبات عميق, وغفلة وإعراض, وتمر الأعوام, وبعض المسلمين قد شغلته دنياه عن دينه, لاهث وراءها , متمسك بها, ينام خائفاً عليها, ويصبح هائماً على وجهه في إثرها.
تمر الأعوام والمسلمون قد فرقتهم الأهواء, وتشتت شملهم, وطمع العدو بهم, فهو يقتل ويأسر ويشرد, يفعل بهم كما يفعل الذئب بالغنم عند غياب الراعي.
أيها المسلمون:
تذكروا بانقضاء العام انقضاء العمر, فالليالي والأيام مطايا تنقلكم من الدنيا إلى الآخرة .
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ{190}} آل عمران.
فالعاقل يعد العدة ويتأهب ويصبر, والمضيع المفرط تمر عليه الأيام والأعوام حتى يفجأه ملك الموت, وهو على حال سيئة نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أعذر الله إلى امرءٍ بلغه الستين". ومعنى الحديث أن من بلغ الستين ولم يتجدد له عمل صالح, ويقلع عن المعاصي, وينيب إلى ربه فلا عذر له عند الله.
كيف وقد بلغه الله هذا العمر المديد, وهو متمادٍ في طغيانه ومعصيته.
قال عليه الصلاة والسلام:" أعمار أمتي مابين الستين إلى السبعين, وأقلهم من يجوز ذلك" رواه الترمذي.
فأنيبوا إلى ربكم قبل هجوم هادم اللذات, وأنتم على حالة لا يرضاها ربكم, فاغتنموا أعماركم واستعملوها في طاعة ربكم.
روى الحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه:" اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك, وصحتك قبل سقمك, وغناك قبل فقرك, وفراغك قبل شغلك, وحياتك قبل موتك".
أيها المسلمون: في هذا الحديث وصايا:
الأولى: اغتنام وقت الشباب قبل الهرم, لأن المسلم يستطيع من فعل الطاعات في شبابه مالا يستطيع عند الهرم.
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: وشاب نشأ في طاعة الله" , وفيه همسة في أذن كل شاب أن يغتنم شبابه بالطاعة التامة.
الثانية: اغتنام الصحة قبل السقم, فكم من معاق يود لو يصلي على قدميه؟ أو يأت إلى المسجد على رجليه؟ ولكن! لا يستطيع, وكم من مريض نائم على سريره لا يذكر الله إلا بأصبعه؟ وكم؟ وكم؟ فاغتنموا زمن الصحة قبل السقم.
ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ".
الثالثة: اغتنام زمن الغنى قبل الفقر, لأن الغني يؤدي الزكاة, ويتصدق ويعين على نوائب الحق, ويصل الرحم بماله, ويجاهد بماله فإذا افتقر عدم هذه الأجور.
الرابعة: اغتنام الفراغ قبل الشغل, قال تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ {7} وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ {8}}الشرح.
الخامسة: اغتنام الحياة بالطاعة قبل الموت, لأن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية, أو ولد صالح يدعوا له, أو علم ينتفع به, فالحياة يتزود منها الطاعات.
قال عليه الصلاة والسلام:" طوبى لمن طال عمره وحسن عمله".
أيها الناس:
اغتنموا ساعات أعماركم بما يقربكم إلى ربكم, وإياكم والغفلة, فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة, أودعوا أيامكم ولياليكم عملاً صالحاً تجدوه في يوم تشخص فيه الأبصار, ولا تغرنكم الحياة الدنيا فإنما هي متاع
قال تعالى : {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ {38} يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ {39}} غافر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
مرور الأيام والأعوام
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهد الله فلا مظل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً {1}}النساء.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً {71}}الأحزاب.
أيها الناس:
إن من حكمة الله عز وجل أن جعل السَنَة اثنا عشر شهراً, قال تعالى:{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {36}}التوبة.
وجعل الشهر ثلاثين, أو تسعة وتسعين يوماً, قال صلى الله عليه وسلم:
"الشهر هكذا وهكذا وهكذا, وأشار بأصابع يديه العشر ثم قال: ويكون هكذا وهكذا وهكذا, وقبض في الثالثة إحدى أصابعه عليه الصلاة والسلام"
وتعاقب الأعوام والشهور والأيام فيه عبرة لأولي الألباب, قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً {62}} الفرقان.
في هذه الأعوام يموت أقوام ويولد آخرون, ويذل أقوام ويعز آخرون, قال تعالى:{وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140}}آل عمران .
واللبيب يتأمل سرعة انقضائها, فيعلم أنها زائلة, وأنه منتقل منها إلى دارٍ أخرى, قال تعالى:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {164}} البقرة
وقال عليه الصلاة والسلام: " ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"رواه ابن ماجة والترمذي وأحمد.
وحذر عليه الصلاة والسلام من الركون إليها, كما حذر قبله أنبياء.
اسمعوا إلى قول رجل مؤمن من آل فرعون يحذر قومه من الدنيا: قال تعالى حاكياً عنه : { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ {38} يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ {39}} غافر.
أيها المسلمون:
إنكم تستقبلون عاماً جديداً لا تدرون ما الله فاعل بكم فيه, أتتمونه أم يوافيكم الأجل قبل تمامه؟ فانظروا رحمكم الله ماذا قدمتم فيما مضى, وبما تستقبلون ما أتى.
أيها المسلمون:
لو تأملنا أحوالنا في هذا الزمان, وقارناها بما مضى أو ببعض البلدان, لوجدنا فرقا كبيراً لدينا, نِعَمٌ لا تعد ولا تحصى, ولا ينكرها إلا من في قلبه مرض,
أعظم نعمة _التوحيد_, التحاكم إلى الله ورسوله عند التنازع, نعمة الأمن والاستقرار,
ولكن هذه النعم وغيرها تدوم بالشكر, وتزول بالكفر, ولا أعني الكفر الأكبر, وإنما أعني كفر النعمة, فإن قام الناس بما أوجب الله عليهم من عبادته , وطاعته, وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام, قولاً, وعملاً, أدام الله عز وجل نعمه.
عباد الله:
في بداية هذا العام الجديد الذي نسأل الله أن يجعله عام خير, وبركة, ونصر للمسلمين أذكركم ببعض الأمور التي تعد من أعظم الأسباب المزيلة للنعم, ليحذرها العاقلُ اللبيب, ويحذر غيره منها.
لزوال النعم أسباب كثيرة :
منها: الإعراض عن دين الله عز وجل, فإن كان إعراضاً بالكلية فهو كفر, وإلا كل بحسبه.
ومن أسباب زوال النعم:
الإقبال على الدنيا وملذاتها, والغفلة عن الآخرة ونعيمها.
ومن أسباب زوال النعم:
انشغال الناس بأسباب الرفاهية والترف واللهو, وبناءُ الملاهي وغيرها, وقد حذر من هذا نبي الله هود عندما رأى قومه معرضين عن طاعة ربهم, وإقبالهم على الملذات والترف واللهو, قال الله عز وجل:{ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ {123} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ {124} إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {125} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {126} وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ {127} أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ {128}} الشعراء.
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: [ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً ]: أي معلماً مشهوراً, وتبنون: أي وإنما تفعلون ذلك عبثاً لا للاحتياج إليه؛ بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة, ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام ذلك, لأنه تضييع للزمان, وإتعاب للأبدان في غير فائدة, واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة أ. هـ
ومن أسباب زوال النعم:
فسقُ المترفين, قال تعالى :{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً {16}}الإسراء.
والمترفون هم أهل الأموال والجاه, فهولاء إن صرفوها في طاعة الله عز وجل, وفي ما يرضيه, صاروا سبباً بإذن الله عز وجل لدوام النعمة, وإن صرفوها في اللهو الباطل, وفيما يصد عن طاعة الله عز وجل صاروا سبباً في إهلاك أنفسهم, وإهلاك من حولهم, لأن الشر يعم, قال تعالى: { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {25}} الأنفال.
ومن أسباب زوال النعم:
ترك الجهاد في سبيل الله, بدءاً بجهاد النفس والأهل, قال صلى الله عليه وسلم:" ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا عمهم الله بالعذاب" رواه الطبراني.
وقال صلى الله عليه وسلم:" إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"رواه أبو داود.
ومن أسباب زوال النعم:
ترك الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, والأخذ على أيدي الفسقة والمجرمين, قال تعالى:{ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ {41}} الحج.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|