أَحْكامُ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ وَبَيانُ بَعْضِ
التَّنْبِيهاتِ الْمُهِمَّةِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عبادَ الله: اتقُوا اللهَ تَعالَى،
واعْلَمُوا أَنَّ سُنَنَ اللهِ في خلْقِهِ لا تَتَبَدَّل، ولا تَتَحوَّل، ﴿ سُنَّةَ اللهِ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا ﴾. ومِن سُنَنِ اللهِ في خَلْقِه،
أَنْ جَعَلَ الزَمانَ يَسْتَديرُ عَلَى التَّرْتِيبِ الذي اخْتَارَه اللهُ
وَوَضَعَه، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عامٍ اثنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، لَا زِيَادَةَ
فيها وَلَا نَقْص، ولَا يَتَقَدَّمُ فِيها شَهْرٌ عَلَى شَهْرٍ، خِلَافًا لِمَا كانَ
عَلَيْهِ أَهْلُ الجاهِلِيَّةِ قَبْلَ بِعْثَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ
إِنَّ هذه الأشْهُرَ، تَتَفاوتُ في فَضْلِها وأحْكامِها وَخَصَائِصِها.
وَمِنْ هذِهِ الأشْهُرِ: شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، حَيْثُ اخْتَصَّهُ اللهُ تعالى بِبَعْضِ الأحكامِ،
وَحَصَلَ لَه مِنَ الصحابَةِ رضي اللهُ عَنْهُم عِنَايَةٌ بَعْدَ وَفَاةِ رسولِ
اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، فَمِنْ ذلك:
أولا:
أَنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم أضافَهُ إلى اللهِ، فَسَمَّاه: " شهرَ
اللهِ الْمُحَرَّمَ "، وهَذِهِ الإضافَةُ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ،
فَإِنَّ اللهَ تعالَى، لَا يُضِيفُ إليهِ إلَّا خَوَاصَّ مُخْلُوقاتِه.
ثانيا:
أنَّه مِن الأشهُرِ الحُرُمِ التي حَرَّمَها اللهُ وعَظَّمَها، وحَرَّمَ القِتالَ
فيها، وجَعَلَ الذنْبَ فيها أشَدَّ مِن غَيْرِها مِن الشُّهُورِ، كَمَا قال تعالى:
﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا
عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ
أَنفُسَكُمْ ﴾.
ثالثاً:
أنَّ صِيامَه يَأْتِي في الْمَرتَبَةِ الثانيةِ بَعْدَ صِيامِ رَمَضَانَ، قال
رسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قال: ( أَفْضَلُ
الصيامِ بَعْدَ رَمَضانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصلاةِ بَعْدَ
الفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ ). فَصِيامُ هذا الشَّهْرِ كامِلًا
مُسْتَحَبٌّ بِنَصِّ هذا الحديثِ، وَصِيَامُ بَعْضِهِ كذلك.
رابعاً:
أنَّ في شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَمِ ذِكْرَى جَمِيلَةً، ومُناسبةً عَظِيمَةً، لَها
مَكَانَةٌ فِي قُلُوبِ الْمؤمنين، فَهُوَ شَهْرٌ انْتَصَرَ فِيهِ الحَقُّ عَلَى
الباطِلِ، حَيْثُ أَنْجَى اللهُ تَعالَى مُوسَى عَلَيْهِ السلامُ وَقَوْمَه، مِنْ
فِرعونَ وَقَوْمِه، ومَكَّنَ اللهُ لِعِبادِهِ الْمُؤمِنينَ في الأرضِ، وجَعَلَهُم
أئِمَّةً ومُلُوكًا، وجَعَلَ فِيهِمُ الأنبياءَ والصالحينَ والْمُصْلِحِينَ. وكانَ
هذا النصرُ فِي يَوْمِ عاشُورَاءَ، أَفْضَلِ أَيَّامِ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ.
فكانَ صِيامُهُ آكَدَ أيَّامِ الشَّهْرِ، وفَضْلُهُ أَكْبَرَ، قالت عائشةُ رضي
الله عنها: لَمَّا قَدِمَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ الْمدينةَ وَجَدَ فِيها
اليهودَ تَصُومُهُ وتُعَظِّمَه فقال: ( نَحْنُ أحَقُّ
بِمُوسى مِنْكُم ). وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عاشُورَاءَ؟ فقال: ( يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْماضِيَةَ ).
ويُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَامَ مَعَهُ اليَوْمُ التاسِعُ
لِأَنَّ الصحابةَ رضي اللهُ عَنْهُم قالُوا يا رسولَ اللهِ: إِنَّهُ يَوْمٌ
تُعَظِّمُهُ اليَهُودُ والنَّصارَى فقال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( فَإِذا كانَ العامُ الْمُقْبِلُ صُمْنَا اليَوْمَ التاسِعَ
) ، فَلَمْ يَأْتِ العامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رسولُ اللهِ صَلَوَاتُ
اللهِ وسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ إفرادُ يَوْمِ
عاشُورَاءَ بِالصَّوْمِ عَلَى الصحيحِ مِن أَقْوالِ أَهْلِ العِلْمِ. وَأَّمَّا صِيامُ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ يَوْمٍ بَعْدَهُ
فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَكِن ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عبَّاسٍ رضي
اللهُ عنهُمَا كان يَصُومُ قَبْلَهُ يَوْمًا وَبَعدَهُ يَوْمًا فَرَقًا أَنَّ
يَفُوتَه. هَذَا هُوَ سَبَبُ صِيامِ هذا اليَوْمِ
مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الروافِضَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فِيما
يَعْتَقِدونَه وَيَفْعَلُونَه فِي هذا اليَوْمِ، حَيْثُ يَجْعَلُونَه مَأْتَمًا
لِأَجْلِ قَتْلِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي اللهُ عنه، وَيَفْعَلُونَ فِيه مِنْ
البِدَعِ والخُرافاتِ، والسَّفاهَةِ والحَمَاقَاتِ، مَا تَنْفِرُ مِنْهُ
البَهَائِمِ، فَضْلًا عَن البَشَرِ. ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَعالَى لَمْ يَأْمُرْ
بِاتِّخاذِ أَيَّامِ مَصائِبِ الأنبياءِ مأَتِمًا، فَكَيْفَ بِمَنْ دَوْنَهُمْ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ
بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون
وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا
إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ،
صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً. أَمّا بَعدُ،
عبادَ الله:
لَقَدْ اهْتَمَّ الصحابةُ رضي اللهُ عَنْهُمْ بِشَهْرِ مَحَرَّمَ فِيمَا يتَعَلَّقُ
بالتأريخِ والتَّدْوِينِ، وضَبْطِ الوَقائِعِ. حَيْثُ أَمَرَ الخليفةُ الراشدُ
عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِذَلِكَ، واعْتَمَدَ العَمَلَ بِهِ،
وجَعَلَه أَمْرًا أساسِيًّا فِي تَوارِيخِ الْمسلمين، عِنْدَمَا رَأَى أَنَّ
الدَّوَاوِينَ والكِتابَاتِ بَيْنَ الْمُسلمين فِي وَقَائِعِهِمْ وَمَا
يَحْتاجُونَ إلى ضَبْطِهِ لِا تَأْرِيخَ يَضْبِطُهُ، فَجَمَعَ الصحابَةَ
واسْتَشَارَهُمْ فِي ذلك، فَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ السَّنَةُ
التي يَبْدَؤُونَ مِنْهَا، سنَةَ هِجْرَةِ الرسولِ صلى اللهُ عليه وسلم.
وَتَحْدِيدًا مِنْ شَهْرِ مُحَرَّم، لِأَنَّه يَأْتِي
بَعْدَ مُنْصَرَفِ الناسِ مِنْ حَجِّهِمْ الذي هُوَ خِتامُ مَوَاسِمِ أَسْواقِهِم.
ولِأَنَّه الشَّهْرُ الذي اسْتَهَلَّ بَعْدَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ بَيْنَ الأنصارِ
والنبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم، فكأَنَّ الهِجْرَةَ بَدَأَتْ فِي ذلك الوَقْتِ،
لِأَنَّ تِلْكَ البَيْعَةَ هِيَ أَوَّلُ أسبابِ العَزْمِ عَلَى الهِجْرَةِ،
والإذْنِ بِهَا، وَكانَ أَوَّلُ هِلَالٍ يُهِلُّ بَعْدَ الإذْنِ، هُوَ هِلَالُ
شَهْرِ مُحَرَّمٍ. فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ شَهْرُ مُحَرَّمٍ أَوَّلَ
أشْهُرِ السَّنَةِ، وَأَجْمَعَ سادَاتُ الأُمَّةِ مِنْ الْمُهاجِرِينَ والأنْصارِ
عَلَى ذلِكَ، وَتَلقَّتْ الأُمَّةُ بِأَسْرِها فِي القُرُونِ الثلاثَةِ الأُولَى
ذلك بِالقَبُولِ.
هَذا هُوَ سَبَبُ اخْتِيارِ بِدايَةِ
السَّنَةِ الهِجْرِيَّةِ، فَلا يَنْبَغِي أَنْ يُزادَ عَلى ذلك، وَلا يُشْرَعُ تَخْصِيصُ آخِرِ السَّنَةِ
الهِجْرِيَّةِ بِعَمَلٍ أَوْ تَهْنِئَةٍ بِإتْمامِهِ، أَوْ اعْتِقادُ أَنَّ
الصُّحُفَ تَطْوَى في خِتامِهِ، أَوْ أَنَّ الأَعْمالَ تُرْفَعُ في نِهايَتِهِ.
فَإنَّ عَمَلَ العامِ يُرْفَعُ في شَعْبانَ كَما أَخْبَرَ النبيُّ صلى اللهُ
عَلَيْهِ وسلم، وَعَمَلَ الأُسْبُوعِ يُرْفَعُ يَوْمَيْ الاثْنَيْنِ والخَمِيسِ،
وعَمَلَ النَّهارِ يُرْفَعُ قَبْلُ دُخُولِ اللَّيْلِ، وَعَمَلَ اللَّيْلِ
يُرْفَعُ قَبْلَ دُخُولِ النَّهارِ. وَكُلُّ ذلكَ يُرْفَعُ وَيُطْوَى إذا انْقَضَى
الأَجَلُ.
اللَّهُمَّ
اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمارِنا أَواخِرَها، وَخَيْرَ أَعْمالِنا خَواتِمَها، وَخَيْرَ
أَيَّامِنا يَوْمَ لِقائِكَ يا أَرْحَمَ الراحِمِين، اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى
ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، اللهُمَّ أصلحْ لنا دينَنا الذي هو
عصمةُ أمرِنا، وأصلحْ لنا دنيانَا التي فيها معاشُنا، وأصلحْ لنا آخرتَنا التي
فيها معادُنا واجعل الدنيا زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ والْموتَ راحةً لنا من كلِّ
شرٍّ، اللهم خَلِّصْنا من حقوقِ خلقِك، وباركْ لنا في الحلالِ من رزقِك، وتوفَّنا
مسلِمِين وألحقْنَا بالصالحينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ
وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ
الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ المسلمين، اللهُمَّ ارفع البلاءَ عن
الْمستضعفينَ من الْمؤمنين في كلِّ مكانٍ، اللهم احفظْ بلادَنا من كيدِ الكائدينَ
وعُدْوانِ الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ ولاةَ أمرِنا بتوفيقِك، وأيِّدْهم
بتأييدِك، واجعلهم من أنصارِ دينِك، وارزقْهُم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ذا
الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغفرْ للمسلمين والمسلماتِ والمؤمنين والمؤمناتِ
الأحياءِ منهم والأمواتِ ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ ، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تَصْنَعُونَ ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|