أَكْيَسُ الناسِ وأَفْضَلُ الناسِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ
تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ الله: اتقُوا اللهَ تعالى،
واستَعِدُّوا قَبْلَ الْمَوْتِ لِماَ بَعْدَ الْمَوْتِ. سُئِلَ النبيُّ صلى اللهُ
عليه وسلم أَيُّ الناسِ أَكْيَسُ؟ أيْ أَعْقَلْ؟ فقال: ( أَكْثَرُهُم
لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وأَحْسَنُهُم لِمَا بَعْدَه اسْتِعْدادًا )، وسُئِلَ
أَيُّ الناسِ أَفْضَل؟ فقال: ( كُلُّ مَخْمُومِ
القلبِ صَدُوقِ اللِّسانِ )، فَقالُوا: صَدُوقُ اللِّسانِ عَرَفْناه، فَمَا
مَخمْوُمُ القلبِ؟، فقال: ( التَّقِيُّ، النَّقِي، لا
إِثْمَ فيه، ولا بَغْيَ، ولا غِلَّ، ولا حَسَد ). هذا هُوَ أَفْضَلُ الناسِ
وأَعْقَلُهُم.
أَكْثَرُهُم
لِلْمَوْتِ ذِكْرًا: فَإِنَّ كَثْرَةَ ذِكْرِ الْمَوْتِ عَلامَةٌ على
حياةِ القلبِ، وزُهْدِه في الدُّنْيا، وعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِها. قال النبيُّ صلى
الله عليه وسلم: ( أَكْثِرُوا مِن ذِكْرِ هادِمِ
اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ ). وقَد وَرَدَ ذِكْرُ الْمَوْتِ في القرآنِ،
وَوَعَظَ اللهُ الناسَ بِه في مَواضِعَ كَثِيرةٍ، قال تعالى: ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الذي تَفِرُّونَ مِنْه فَإِنَّه
مُلاقِيكُم )، وقال تعالى: ( أَيْنَما
تَكُونُوا يُدْرِككُم الْمَوْتُ وَلَو كُنْتُم في بُرُوجٍ مُشَيَّدَة )،
وقال تعالى: ( وجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلك ما
كُنْتَ مِنْهُ تَحِيد )، ذَلِك ما كُنْتَ مِنْه تَهْرُب. وإِلى مَنْ
تَهْرُب؟! إلى الطبيبِ؟ إلى الْمالِ والعِزِّ والجاهِ؟ إلى القَرِيبِ؟ إلى
القُصُورِ والْمَخَابِئِ؟ إلى مَنْ تَهْرُبْ؟ الْمَوْتُ يَأْتِي الصغيرَ والكبيرَ
والغَنِيَّ والفقيرَ والصحيحَ والسَّقِيم.
عبادَ الله:
أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، الذِّكْرَ الذي يَبْعَثُكُم عَلَى
الاستِعْدادِ بِالعَمَلِ الصالِحِ، الذِّكْرَ الذي يَمْنَعُكُم مِن الإِقْدامِ على
الْمَعاصِي وأَسْبابِها، الذِّكْرَ الذي يَحُثُّكُم على التَخَلُّصِ مِن حُقُوقِ
العِبادِ، وطَلَبِ الْمُسامَحَةِ مِمَّن له عَلَيكُم مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ أو مال،
فَإِنَّ حُقُوقَ العِبادِ لا تُتْرَك.
أَكْثِرُوا
مِن ذِكْرِ الْمَوْتِ الذِّكْرَ الذي يَجْعَلُكُم
تَمْنَعُونَ أَنْفُسَكُم مِن الحَسَدِ والغِيبَةِ والتَدَخُّلِ فِيمَا لا يَعْنِي.
أَكْثِرُوا
مِن ذِكْرِ الْمَوْتِ الذِّكْرَ الذي يُهَوِّنُ الدنيا في
قُلُوبِكُم كَيْ لا تَرْكنَوُا إِلَيْها، ولا تَتَنافَسُوا فِيها، فَإِنَّ الدنيا
لا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَناحَ بَعُوضَة، أَيْ لَيْسَ لَها وَزْنٌ ولا قِيمَةٌ،
لِأَنَّ جَناحَ البَعُوضَةِ أَخَفُّ ما يُوزَن، ومَعَ ذلكَ لا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ
جَناحَ بَعُوضَة.
أَكْثِرُوا
مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ الذِّكْرَ الذي يُهَوِّنُ عَلَيْكُم
مَصائِبَ الدنيا وأَحزانَها وهُمُومَها.
هذِه هِيَ ثَمَرَةُ الإكثارِ مِن ذِكْرِ الْمَوت،
هِيَ الاسْتِعْدادُ.
وأَمَّا
مَخْمُومُ القَلْبِ: فَهُو النَّظِيفُ النَّزِيهُ مِن كُلِّ قَذَرٍ
ودَنَسٍ. قَلْبٌ مَخْمُومُ أَيْ: مَكْنُوسٌ طاهِرٌ مُطَهَّرٌ. هُوَ التَّقِيُّ: أَيْ الذي يَجْعَلُ بَيْنَه
وبَيْنَ عذابِ اللهِ وِقايةً، بِطاعَةِ اللهِ وتَرْكِ مَعْصِيَتِه. النَّقِيُّ مِن كُلِّ شُبْهَةٍ وشَهْوَةٍ، وهذا هُوَ مَعْنَى القَلْبِ السلِيم، أَي: السالِمُ مِن الشِّرْكِ صَغِيرِهِ وكَبِيرهِ. والسالِمُ مِن البِدَعِ والشُّبُهاتِ التي
تُشَكِّكُهُ فِي دِينِهِ وفي عَقِيدَتِهِ وعَلاقَتِهِ بِرَبِّه، هُوَ السالِمُ مِن الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ
التي تَسْجِنُ قَلْبَه وتَحُولُ بَيِنَه وبَيْنَ التَعَلُّقِ بِاللهِ. والتي قَدْ
تَقُودُهُ إلى الزِّنا واللِّواطِ وشُرْبِ الخَمْرِ وغَيرِ ذلك مِن الْمَعاصِي.
القَلْب
السَّلِيمُ: هو القلبُ الْمُتَوَاضِعُ الْمَخْمُومُ،
الذي لا غِلَّ فِيه ولا رِياءَ ولا سُمْعَةَ ولا هَوَى ولا غِشَّ ولا كِبْرَ ولا
حَسَدَ. هو القلبُ الْمُخْلِصُ للهِ وَحْدَه.
وصاحِبُ
هذا القلبِ، مِن أَسْعَدِ الناسِ وأَشْرَحِها
صَدْرًا وأَكْثَرِها تَعَلُّقًا بِاللهِ وأَبْعَدِها عَن مَعْصِيةِ الله.
وأما
صَدُوقُ اللِّسانِ: فَهُوَ الْمُلازِمُ لِلصِّدْقِ في جَمِيعِ
أَقْوالِه، لا يِكْذِبُ أَبَدًا، لا مَازِحًا ولا جَادًّا. فَإِنَّ الصِدْقَ مِن
أَعْظَمِ صِفاتِ الأَنْبياءِ، والكَذِبَ مِنْ أَبْرَزِ صِفاتِ الْمُنافقين. قال
رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( عَلَيْكُم
بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإِنَّ البِّرَّ يَهْدِي إلى
الجَنَّةِ، وما يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى
يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقا، وإِيَّاكُم والكَذِبَ، فإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي
إلى الفُجُورِ، وإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وما يَزَالُ الرَّجُلُ
يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الكَذِبَ حتى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كذَّابا ).
باركَ
اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه
مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ
لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمدُ للهِ الْواحدِ
الأحدِ الصمدِ الذّي لَمْ يَلدْ وَلَمْ يُولدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحد، فَاطرِ
السِّمَاواتِ وَالأَرْضِ، جَاعَلِ الْمَلائكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحةً مَثْنَى
وَثلاثَ وَرباعَ، يَزِيدُ فِي الْخَلِقِ مَا يَشاءُ، إنّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِير،
مَا يَفْتَحِ اللهُ للنِّاسِ مِنْ رَحمةٍ فَلا مُمسكَ لها، وَمَا يُمسكْ فَلا مُرْسِلَ
لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ
وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد:
عبادَ
اللهِ: إذا كان خَيْرُ الناسِ، هُوَ أَكْثَرَهُم لَلْمَوتِ ذِكْرًا،
وَأَحْسَنَهُم لِما بَعْدَه اسْتِعْدادًا، فَلازِمُ ذلك أَنَّ شَرَّ الناسِ هُم
الغافِلُونَ عن الْمَوتِ وما بَعْدَه، وَعَن الاستِعْدادِ عن الأَمْرِ الذي
خُلِقُوا مِن أَجْلِه. فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِن ذلك.
وإذا كانَ
خَيْرُ الناسِ كُلَّ مَخْمُومِ القلبِ وصَدُوقَ اللِّسان. فِلازِمُ ذلك
أَنَّ شَرَّ الناسِ مَن امْتَلَأَ قَلْبُهُ غِلًّا وحَسَدًا وبَغْيًا. بَعِيدًا
عَن الصِّدْقِ في حَدِيثِه، مُلازِما لِلْكَذِبِ والبُهْتان.
فاتقُوا اللهَ عِبادَ الله، وإيَّاكُم
والغَفْلَةَ عَن الأَمْرِ الذي خُلِقْتُم مِن أَجْلِه، وراقِبُوا أَعْمالَكُم
وأَقْوالَكُم وقُلُوبَكُم، وابْذُلُوا أَسْبابَ الفَوْزِ بِرَحْمَةِ اللهِ
والنَّجاةِ مِن عَذَابِه.
اللهم
آتِ نُفُوسَنا تقواها، وزَكِّها أنت خَيْرُ مَنْ زَكَّاها، أَنتَ وَليُّها وَمَوْلاها،
اللهُمَّ خَلِّصْنا مِن حُقوقِ خَلقِك، وبَاركْ لَنَا فِي الحـَلالِ مِن رِزقِك، اللَّهُمَّ
تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ،
غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الّذِي هُوَ عِصْمَةُ
أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ
لَنَا آخِرَتَنَا الّتِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلْ الحَيَاةَ زِيَادةً
لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ
أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ،
وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أَحوالَ الْمُسْلِمِيْنَ،
اللهُمَّ ارْفعْ البَلاءَ عَن الْمستضعفينَ مِن الْمُؤمِنين فِي كُلِّ مَكانٍ،
اللهُمَّ احِقنْ دماءَ الْمُسلِمِين يا ربَّ العَالَمِين، اللهُمَّ عَليكَ بِالكفرةِ والْمُلِحِدِين
الذَّين يَصدُّون عَن دِينِكَ وَيُقَاتِلُون عَبادَك الْمُؤمِنين، اللهُمَّ عَليكَ
بِهم فإنهمْ لا يُعجزونَكَ، اللهُمَّ زَلْزِل الأرضَ مِن تحتِ أَقَدَامِهم، اللهُمَّ
سلِّطْ عَليهم منْ يَسُومُهم سُوءَ العذابِ يا قويُّ يا متين، اللهُمَّ احفظْ
بلادَنا مِن كَيدِ الكَائِدِينَ وعُدْوانِ الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمرِنا
بِتَوفِيقِك، وَأَيِّدْهُم بِتأَييدِك، وَاجْعَلْهُم مِن أَنصارِ دِينِك، وَارزقْهُم
البِطانةَ الصَّالحةَ النَّاصِحةَ يَا ذَا الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغْفِرْ
لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ
مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق
تجدها هنا : http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|