شرور النفس ومحاسبتها
30 -12 -1443
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ،
ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له،
ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ،
وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) ((يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
))، أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
أيها الناس: في غمرة الحياة وكثرة ملهياتها، وتنوع شهواتها، وتسارع
أيامها بنا، نغفل كثيراً ونلهو كثيرا، ونعثر كثيرا، ونقصر مرارا وتكرارا.
ذلك،،، لأن لنا أنفساً ضعيفة تحب
الشهوات ((زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ)) وتأمر بالسوء، ((إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ))، وتسوِّل به ((وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي))
أَنْفُسُنَا لها أهواء وشرور،
فالإنسان ظلوم جهول جزوع عجول، جحود، ضعيف حريص ذو تسويف إلا من رحم الله.
يقول ابن القيم رحمه الله: "سبحان
الله! في النفس: كِبْرُ إبليس، وحَسَدُ قابيل، وعُتُوُّ عاد، وطُغْيَان ثمود،
وجُرأةُ النمرود، واستطالةُ فرعون، وبَغْيُ قارون، ولؤمُ هامان، وهوى بَلْعَام،
وحِيَلُ أصحاب السبت، وتَمرُّدُ الوليد، وجهلُ أبي جهل.
وفيها من أخلاق البهائم: حرصُ
الغراب، وشَرَهُ الكلب، ورُعُونَةُ الطاووس، ودناءَةُ الجُعَل، وعُقُوقُ الضَّبِ،
وحِقْدُ الجمل، ووثُوبُ الفَهْد، وصَوْلَة الأسد، وفِسْقُ الفأرة، وخُبْثُ الحية،
وعَبَثُ القِرْدِ، وجَمْعُ النملة، ومكرُ الثعلب، وخِفَّةُ الفَرَاش، ونومُ الضبع"
انتهى كلامه.
وصَدَقَ رحمه الله ففي أنفسنا
البشرية نصيباً من هذه الطبائع أو من بعضها.
فيا عباد الله تعوذوا بالله من شرورِ أنفسكم، وسيئاتِ أعمالكم، فقد
كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من شرورها فيقول في خطبة الحاجة في
افتتاحية خطبة الجمعة: (وأعوذُ
باللهِ من شُرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا ...)
وقَالَ له أَبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ
رضي الله عنه: "يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ عَلِّمْنِي مَا أَقُولُ إِذَا
أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ. فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ رَبَّ كُلِّ
شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ
وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى
مُسْلِمٍ»، وزاد في رواية أخرى صحيحة للترمذي: «قُلْهَا إِذَا أَصْبَحْتَ، وَإِذَا
أَمْسَيْتَ، وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ» وقال الألباني: صحيح. رواه
الترمذي
وقال له شَكَلُ بنُ حميد العبسي
رضي الله عنه: يا رسولَ اللهِ، علِّمْني تعوُّذًا أتعوَّذُ به! قال: (قُلِ: اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ مِن شرِّ
سَمْعي، ومِن شرِّ بصَري، ومِن شرِّ لساني، ومِن شرِّ قَلْبي، ومِن شرِّ مَنِيِّي. ـ أي من شر فرجي ـ) رواه
الترمذي وحسنه ابن حجر والألباني والوادعي
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو
ويتعوذ فيقول: (اللَّهمَّ
اغفر لي ذَنبي خَطئي وعَمدي، اللَّهُمَّ إنِّي أستَهْديكَ لأرشَدِ أمري، وأعوذُ
بِكَ مِن شرِّ نَفسي) صحيح رواه أحمد
عباد الله:
وإذا علمنا أننا محاسبون على مثقال
حبة الخردل من أعمالنا، ((وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا
وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا
حَاسِبِينَ)) وأننا موعودون برؤية مثاقيل الذر من حسناتنا
وسيئاتنا، ((فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرّاً يَرَهُ))، ومُخبرون أنه مُحْصِىً علينا ما صغر وكبر من
أعمالنا، ((وَيَقُولُونَ
يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً
إِلَّا أَحْصَاهَا))
إذا علمنا ذلك عباد الله وأيقنا
به.
فلنعلم أننا مطالبون بمجاهدة أنفسنا على طاعة
الله، (فالمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله)، ومطالبون بتصبيرها
عن معصية الله ((يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا))، (وَمَنْ يَتصبّر يُصبّرُهُ الله).
ومطالبون بتزكية أنفسنا وتطهيرها،
وأنفس المؤمنين زكية، ويتفاوت زكاؤها حسب تزكية الله لها، ((وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي
مَنْ يَشَاءُ)) وحسب تزكية المؤمن نفسه، ((قَدْ أَفْلَحَ مَن
زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)).
ولنعلم أننا مأمورون بمحاسبة أنفسنا والنظر في حال سيرها إلى الله والدار الآخرة،
قال الله تعالى: ((يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ
لِغَدٍ)) أي حاسبوا أنفسكم
وانظروا ماذا قدمتم لآخرتكم ويوم معادكم وعرضكم على ربكم من الأعمال الصالحة.
قال ابن القيم: "هذه الآية
دالة على وجوب محاسبة النفس".
ومطالبون بلوم أنفسنا على الخطأ
والتقصير، ونفس المؤمن لوامة.
ولقد عظم الله شأن النفس اللوامة
بالقسم بها ((وَلا
أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)) أي أأكد القسم بالنفس التي تكثر
اللوم لصاحبها على اقتراف الشر والتقصير في الخير أو على فواته.
قال الحسن البصري: "هي النفس
المؤمنة". وقال: "إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه، ما أردت
بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بشربتي؟ وإن الفاجر يمضي قدما لا يحاسب نفسه ولا
يعاتبها.
فنفس المؤمن توقعه في الذنب ثم
تلومه عليه، فهذا اللوم من الإيمان، بخلاف الشقي؛ فإنه لا يلوم نفسه على ذنب، بل
يلومها وتلومه على فواته".
روى الإمامُ أَحْمَدُ في كتابه
الزهد بسند صحيح عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ
تُحَاسَبُوا، وزنُوهَا قبل أنْ تُوزَنوا، فَإِنَّه أَهونُ عَليكُم في الْحِسَابِ
غَدًا أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ اليوم، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ
يومئذٍ تُعرضونَ لا تَخْفَى مِنْكَمْ خَافِية عَلى اللهِ".
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعني وإياكم بما
فيهما من المواعظ والحكمة ، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم
النبيين، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله: من حاسب نفسه قبل أن يحاسب، خف في القيامة حسابه، وحضر
عن السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه، دامت حسراته، وطالت في
عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته، وأعقل الناس من دان نفسه
وحاسبها وعاتبها وعمل لما بعد الموت واشتغل بعيوبه وإصلاحها.
ورأس مال المؤمن في دينه فرائضه،
وخسرانه وقوعه في المعاصي، وربحه النوافل والفضائل.
وموسمُهُ عمُرُهُ كلُّه، فسوف يسأل
عن عمره فيما أفناه وعن شبابه وجسمه فيم أبلاه
قال ميمون بن مِهْرَان: لا يكون
العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه.
أيها المسلمون: فِي مُحَاسَبةِ النفسِ الاِطلاعُ عَلى عُيوبها وزللها
وتقصيرها.
ومحاسبة النفس تَحُث على تدارك
التقصير في الأعمال الواجبة.
وتَدْعُو الإنسانَ إلى النظر فِي
حقوق الله وحقوق الخلق عليه السعي لأدائها.
ومحاسبة النفس تذكر المرء بذنوبه،
وتجعله يبكي على خطيئته ويجدد الندم عليها والتوبة منها.
فيا عباد الله حاسبوا أنفسكم، حاسبوا أنفسكم على إيمانكم واتهموها
بالتقصير، فقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والسلف يخافون النفاق على أنفسهم
ويخافون الفتنة وسلب الإيمان.
وحاسبوا أنفسكم على صلاتكم، ولينظر
المرء في إقامته لها والمحافظة على أوقاتها وخشوعها ورواتبها المكملة لها، فأول ما
سيحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة صلاته.
وحاسبوا أنفسكم على أداء عموم
الفرائض والواجبات واجتناب المحرمات في أسماعكم وأبصاركم وألسنتكم وبطونكم
وفروجكم.
فمن وجد خيراً فليحمد الله وليسأل
الله الثبات والمزيد من فضله.
ومن وجد تقصيراً فليبادر للإنابة
إلى مولاه.
وجميل أن يكون للمؤمن وقفة محاسبة
مع نفسه، يوميةً وأسبوعيةً وشهريةً وسنويةً ويجرد حساباته قبل أن يُجْرَدَ عليه.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم
الاثنين والخميس ويقول أحب أن يعرض عملي وأنا صائم، وفي هذا نوع محاسبة من وجه.
وكان إبراهيم النخعي يبكي إلى
امرأته وتبكي إليه يوم الاثنين ويقول: اليوم تعرض أعمالنا على الله عز وجل
وكان الضحاك بن مزاحم إذا أمسى بكى
وقال: لا أدري ما صعد اليوم من عملي.
وكَانَ تَوْبَةُ بْنُ الصِّمَّةِ
بِالرَّقَةِ، وَكَانَ مُحَاسِبًا لِنَفْسِهِ، فَحَسَبَ، فَإِذَا هُوَ ابْنُ
سِتِّينَ سَنَةً، فَحَسَبَ أَيَّامَهَا، فَإِذَا هِيَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ أَلفَ
يَوْمٍ وَخَمْسُ مِائَةِ يَوْمٍ، فَصَرَخَ وَقَالَ: يَا وَيْلَتِي أَلْقَى
الْمَلِيكَ بِواحَدٍ وَعَشْرِينَ أَلْفَ ذَنْبٍ، كَيْفَ وَفِي كُلِّ يَوْمٍ
عَشْرَات الذُنوب"، ثُمَّ خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. رواه الخطيب البغدادي
في كتاب الزهد والرقائق رقم (70)
يا لها من ركضةٍ إلى الله.
اللهم ارزقنا محاسبة أنفسنا محاسبة تثمر لنا الإنابة
إليك.
اللَّهُمَّ آتِ نَفوسنا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ
خَيْرُ مَن زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إنا نعُوذُ بكَ
مِن عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ،
وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا، اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات
أعمالنا.
اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين برحمتك يا
أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك قلبًا سليما ولسانًا صادقا ، ونسألك من خير ما
تعلم ، ونعوذ بك من شر ما تعلم ، ونستغفرك مما تعلم إنك أنت علام الغيوب . اللهم
إنا نعوذ بك من شر ما عملنا وشر ما لم نعمل.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح ولاة أمورنا، اللهم وفقهم
لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم ادفع عن بلادنا الغلا والوباء وسوء الفتن ما ظهر
منها وما بطن، االلهم احفظ علينا أمننا وإيماننا وصحة أبداننا وعافية أجسادنا،
اللهم اشف مرضانا وعاف مبتلانا واجعل آخرتنا خير من دنيانا، اللهم احفظ بلادنا من
كيد الكائدين وعدوان المعتدين ومن كل شر وفتنة يا خير الحافظين، اللهم من أراد
بلادنا وبلاد المسلمين بسوء وفتنة فاجعل كيده في نحره يا قوي يا عزيز، يا حيّ يا
قيوم . ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا
للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا
عذاب النار
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين
والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي حفظه الله تعالى:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121 |