سُؤالُ أبي ذرٍّ للنبي صلى الله عليه وسلم،
مَعَ التحذير مِن التّعَرُّضِ لِمَخاطِر السُّيُولِ
الخطبة
الأولى
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد:
عِبادَ
الله: اتَّقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا أَنَّ الإيمانَ لا يَكْتَمِلُ، حَتَّى يُحِبَّ
المؤمنُ لأخِيهِ مِن الخَيْرِ، ما يُحِبُّهُ لِنَفْسِه، ولا يَحْسُنُ إسلامُ المرءِ
إلا إذا سَلِمَ إخوانُه مِنْ لِسانِه وَيَدِه. وَيَدْخُلُ في ذلك: الإمساكُ عَن الشَّرِّ، وَتَرْكُ الأذِيَّةِ، فإنَّها مِنْ أَعْظَمِ الصدقاتِ التي يَتَصدقُ بها المسلمُ على
نَفْسِه. قال أبو ذَرٍّ رضي الله عنه: ( سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ العَمَلِ
أفْضَلُ؟ قال: " إيمانٌ باللهِ، وجِهادٌ في سَبِيلِه ". قُلْتُ: فأيُّ الرِّقابِ
أفضل؟ قال: " أَغْلاها ثَمَنًا، وأَنْفَسُها عِنْدَ أهلِها ". قُلْت: فَإِنْ
لَمْ أَفْعَل؟ قال: " تُعِينُ صانِعاً، أو تَصْنَعُ لِأَخْرَق ". قال: فَإِنْ
لَمْ أَفْعَل؟ قال: " تَدَعُ الناسَ مِنْ الشَّرِّ، فإنَّها صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ
بِها على نَفْسِكَ " ). فالإمساكُ عَن الشَّرِّ صَدَقَةٌ لِلمسلِمِ على نَفْسِه، وفَضِيلَةٌ وسَلامَةٌ، حَتَّى مَعَ المُعاهَدِين مِن الكُفَّارِ، يَقُولُ النبيُّ صلى
الله عليه وسلم: ( أَلا مَن ظَلَمَ مُعَاهَداً أو انتَقَصَهُ أو كَلَّفَه فَوْقَ طاقَتِه
أو أَخَذَ مِنْه شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنا حَجِيجُهُ يَوْمَ القيامة
). فإذا كان مَنْ يَفْعَلُ ذلك مَعَ غَيْرِ المسلمِ مُتَوَعَّداً بِما وَرَدَ في هذا
الحديثِ، فَكَيْفَ بِمَن يَفْعَلُ ذلك مَعَ المسلمين؟ قال تعالى: ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً
وَإِثْماً مُبِيناً ). وقال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( كُلُّ المسلمِ على
المسلمِ حَرامٌ: دَمُهُ، ومالُه، وعِرضُه ). وأذيةُ المؤمنين مُتَنَوِّعَة، ومِنْ أَخْطَرِها
ما يَتَعَلَّقُ بالأَعْراضِ وتَتَبُّعِ العَوْراتِ، يَقُولُ النبيُّ صلى اللهُ عليه
وسلم: ( يا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسانِه وَلَمْ يَدْخُلِ الإيمانُ قَلْبَه لا
تُؤْذُوا المسلمين ولا تَتَّبِعُوا عَوْراتِهِم فإنه مَنْ تَتَبَّع عَوْرَةَ أخيه المسلمِ
تَتَبَّعُ اللهُ عَوْرَتَه وَمَنْ تَتَبَّعُ اللهُ عَوْرَتَه يَفْضَحُه وَلَوْ في جَوْفِ
رَحْلِه ). وهذا يَدُلُّ على أَنَّ مِثْلَ هذا العملِ عُقُوبَتُه مُعَجَّلَةٌ في الدنيا
قَبْلَ الآخِرَةِ. فَأَعْراضُ المسلمين وعَوْراتُهُم مُحَرَّمَةٌ تَحْريما شَديداً، وأَذِيَّتُهم في مَحارِمِهم وأَسْرارِهم مِن الذُّنُوبِ الكبيرةِ، ومِن مَظاهِرِ أَذِيَّتِهم
في ذلك، استخدامُ أَجْهِزَةِ الجَوَّالِ في تَتَبُّعِ عَوْراتِهِم، وكَشْفِ أسرارِهِم.
وهذا عَمَلٌ مَشِينٌ قَبِيحٌ لا يَصْدُر إلا مِنْ شَخْصٍ مُنافِقٍ خَبِيثِ النَّفْسِ، وفاسِدِ القَلْبِ، لَيْسَ لَه مِن التربِيَةِ الصالِحةِ نَصِيبٌ.
ومِنْ
الأَذِيَّةِ: السَّبُّ والشُّتْمُ، والسُّخْرِيةُ باللِّسانِ، والطعنُ في الأنْسابِ
والأحسابِ والقبائِلِ، ومِنْها: الغِيبةُ، وهي ذِكْرُ المسلمِ بِما يَكْره، وكذلك النَّمِيمَةُ
وهي: نَقْلُ الكلامِ الذي يُفرِّقُ بين الناسِ ويُثِيرُ الضَّغِينَةَ والبَغْضاءَ ويَنْشُرُ
العَدَاوَةَ بين المسلمين.
ومِن
الأذيةِ: أذيَّةُ المسلمين في طُرُقِهم وطُرُقاتِهم، مِنْ خِلالِ القِيادَةِ المُتَهَوِّرَةِ،
والتَّفْحِيطِ والسُّرْعَةِ المُفْرِطَةِ. وعَكْسُ ذلك: وُقُوفُ الشبابِ في سياراتِهِم
في الشَّوارِعِ وتَعْطِيلِ المارَّةِ، أو إِلْقاءِ القاذُوراتِ والأشياءِ المُؤْذِيَةِ
في الشَّوَارِعِ، وقَدْ قال صلى اللهُ عليه وسلم: ( اتَّقُوا اللّعَّانَين )، قالوا:
وما اللَّعَّانانِ يارسولَ الله؟ قال: ( الذي يتَخَلَّى في طَرِيقِ الناسِ أو ظِلِّهِم
). فالتَّخَلِّي في طُرُقِ الناسِ ومَمَرَّاتِهِم، وأماكِنِ جُلُوسِهِم ومُسْتَراحِهم، ومُتَنَزَّهاتِهم حَرَام، وكذلك إلقاءُ كُلِّ ما هُوَ مُؤْذٍ ومُنَفِّرٍ للناسِ في
مِثْلِ هذه الأماكِنِ فإنَّه مُحَرَّم. ويَدْخُلُ في ذلك، ما يَحْصُلُ في الأماكِنِ
التي يَقْصِدُها الناسُ في رَحَلاتِ البَرِّ، فإنَّه لا يَنْبَغِي لِمَنْ جَلَس فِيها، أَنْ يَتْرُكَ مُخَلَّفاتِه بَعْدَ فَراغِه مِنْ نُزْهَتِه، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُزِيلَها، أَوْ يَجْمَعَها في حاوِياتٍ كَيْ تَسْهُلَ إزالتُها. ومِن المُخَلَّفاتِ تَرْكُ النارِ، وعَدَمُ التَّأَكُّدِ مِنْ إِطْفائِها قَبْلَ المُغادَرَةِ، لأنَّه قَدْ يتأذى بِها
مَنْ يَأْتِي بَعْدَه مِنْ إِخْوانِه المسلمين، فإنَّ إِزالَةَ مِثْلَ ذلكَ مِن شُعَبٍ
الإيمانِ ومَحاسِنِ الأَخْلاقِ. ويَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ فِي هذا الوَقْتِ، ومَعَ مَواسِمِ
الأَمْطارِ أَنْ يَحْذَرَ مِن مَخاطِر السُّيُولِ، وأَنْ لا يتَعَرَّضَ لِمَجارِيها، فَيَضُرَّ نَفْسَه وَمَنْ مَعَه.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ
بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ
اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيم.
الخطبة
الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ،
وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ
لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ
وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
ومِنْ الأذِيَّةِ: تَرْكُ الرَّوائِحِ الكَريهَةِ، التي تَكُونُ في الثِّيابِ، أَوْ البَدَنِ، أَوْ الفَمِ، والتي قَدْ تَتَحَوَّلُ إلى
المسلمين في مَساجِدِهِم.
ثُمَّ
اعْلَمُوا يا عبادَ اللهِ: أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الحُقُوقِ، حَقَّ الجارِ، فالإحسانُ
إليهِ فَرْضٌ واجِبٌ، وأَذِيَّتُه مِنْ كَبائِرِ الذُّنُوبِ، قال صلى الله عليه وسلم:
( لا يَدْخُلُ الجنةَ مَنْ لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوَائِقَه ). وقال أيضاً: ( وَمَنْ
كان يُؤْمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِم جارَه ).
والكلامُ
عَنْ الأذِيَّةِ وصُوَرِها كَثِيرٌ وطَويلٌ، فَيَنْبَغِي لِلمُسْلِم أَنْ يَحْذَرَ
مِن كُلِّ عَمَلٍ يَضُّرُّ المسلمينَ، أوْ يُؤْذِيهِم، سَواءً كانَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، وسَواءً كان دَقِيقًا أو جَلِيلاً، فَإِنَّ مَظَالِمَ العِبادِ لا تُتْركُ يَوْمَ القِيامَةِ، لِقَوْلِه عليه الصلاة والسلام: ( إِنَّ المُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي، مَنْ يأتِي يَوْمَ
القيامةِ بِصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويَأْتِي قَدْ شَتَم هذا، وَقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ
هذا، وَسَفَكَ دَمَ هذا، وَضَرَبَ هذا. فَيُعْطِى هذا مِن حَسناتِهِ وهذا مِنْ حَسَناتِه.
فَإِن فَنِيَتْ حَسناتُه، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطاياهُم
فَطُرِحَتْ عَلَيه. ثُمَّ طُرِحَ في النارِ ).
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنّا سيئها
لا يصرف عنّا سيئها إلا أنت، اللهم آتِ نفُوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكاها أنت
وليّها ومولاها، اللهم وفقنا لما يرضيك عنّا وجنبنا ما يسخط علينا، اللهم خلصنا من
حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين، واجعلنا في الآخرة من الصالحين،
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا
تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين يا رب العالمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاما ومحكومين،
اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفظ
بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم أخرجها من الفتن والشرور والآفات ومن
هذا البلاء، واجعلها أقوى مما كنت، وأمكن مما كانت، وأغنى مما كانت، وأصلح مما كانت،
اللهم أصلح أهلها وحكامها واجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم يدا واحدة على من عداهم
يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
إنك سميع قريب مجيب الدعوات اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء
أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوةً وبلاغاً إلى حين، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً،
هنيئاً مريئاً، سحاً غدقاً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم اسق بلادك وعبادك
وبهائمك، وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين،
اللهم أنزل علينا من السماء ماء مباركاً تُغيث به البلاد والعباد وتعُمَّ به الحاضر
والباد، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك من جميع ذنوبنا،
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119 |