الاعتصامُ بِحَبْلِ الله واجْتِماعُ الكلمةِ
والتَحْذِيرُ مِن الفِرَقِ والجماعاتِ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ الله: اتقُوا اللهَ تعالى، واعتَصِمُوا
بِحَبْلِه، فإنَّ الاعْتِصامَ بِحَبْلِ اللهِ سَبِيلُ النَّجاة، وقَدْ فَسَّرَ
الصحابَةُ رضي اللهُ عنهم حَبْلَ اللهِ: بِدِينِ الله، والقرآنِ، وعَهْدِ الله،
والجماعة. مِمَّا يَدُلُّ على أَنَّ حَبْلَ اللهِ، شامِلٌ لِهذِه الأُمُورِ
الأربعة.
ومِمَّا وَرَدَ في هذا البابِ العظيمِ آيَةٌ
جامِعَةٌ، لَمْ تَتْرُكْ شَيْئًا يَحْتاجُه المُؤْمِنون فيما يَجِبُ علَيْهِم في
أَمْرِ دِينِهِم ودُنياهُم إلا أرْشَدَت إِليه، جَمَعَ اللهُ فيها أَعْظَمَ
الحُقُوقِ ورَتَّبَها، وبَيَّنَ فيها، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ
فِي
شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ
إِلَى
اللَّهِ
وَالرَّسُولِ
إِن
كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ
ذَٰلِكَ
خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلًا
).
فهذه آيَةٌ عَظيمةٌ، تَحَدَّثَت عَن أُمُورٍ
أَربَعةٍ، كُلُّها في التوحيدِ وَوِحدةِ الصَّفِّ والمَنْهَج، تَوْحيدُ الله،
وتَوحيدُ الإتِّباع، وتَوحيدُ الجماعةِ، وتَوحيدُ المَنْهَج: فَتَوحيدُ اللهِ
مأخُوذٌ مِن قَوْلِه: ( أَطيعُوا الله )، وتوحيدُ الإتِّباع مأخُوذٌ مِن قَولِه: (
وَأَطِيعُوا الرسول )، وتَوحيدُ الجماعةِ مأخُوذٌ مِن قَولِه: ( وَأُولِي الأَمْرِ
مِنْكُم )، وتَوحيدُ المنهَجِ مأخُوذٌ مِن قَولِه: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ).
اللهُ أَكْبَر! آيَةٌ واحدةٌ، اجْتَثَّت
جُذُورَ الشِّركِ والبِدَعِ والحِزْبِيَّةِ والاخْتِلاف. وهناكَ أمْرٌ خامِسٌ
يُضَمُّ إلى هذه الأُمُورِ الأرْبَعَةِ مُتَعَلِقٌ بمَضْمُونِ هذه الآيةِ، ألا وهو
اجْتِماعُ الكَلِمَةِ وَقْتَ الفُرْقَةِ والفِتَنِ والمَخاوُفِ واضْطِرابِ أُمُورِ
السياسةِ، وحِفْظُ اللسانِ، وعَدَمُ التَّدَخُّلِ، وَتَرْكُ الكلامِ لِوُلاةِ
الأَمْرِ وأَهْلِ الحَلِّ والعَقْدِ، وهذا التوجيهُ مَذْكُورٌ في قَوْلِهِ تعالى:
( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ). فَيَا لَه مِنْ
تَوجِيهٍ رَبَّانِيٍّ عَظَيمٍ، لَو عَمِلَ بِهِ المُسْلِمُونَ، وَلَمْ يَسْتَسْلِمُوا
لِعَواطِفِهِم، ولَمْ يُسَلِّمُوا عُقُولَهُمْ لِلْمَأْجُورينَ والمُغْرِضينِ،
والمُتعالِمينِ، وعَبيدِ الدُّنْيا، ودعاةِ الفِتَنِ والأحْزابِ، ومَنْ يُسَمَّونِ
بِالناشِطينِ، أَوْ مُدَّعِي الإصلاحِ، أَو المُحَلِّلِينَ، لَصَلَحَ أَمْرُ
دِينِهِم ودُنياهم. وسَلِمُوا مِن الفَوضَى والاضْطِرابِ والتَشَتُّتِ. وكَثيرٌ
مِن العُقَلاءِ الذين عاشُوا في بُلْدانِ الفِتَنِ والقلاقِلِ والفَوضَى،
يَبْكُونَ عَلَى مِثْلِ هذا التَّوجِيهِ الرَّبانِي، لأَنَّه مِنْ لَدُنْ حَكَيمٍ
خَبيرٍ، عَلِيمٍ لَطِيفٍ بِعِبادِه، ولكنَّ أَكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ،
وخَلْفَ عَواطِفِهِم وأَهْواءِهِم يَرْكُضُون.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون
وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ،
صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عِبادَ الله: إِنَّ مِن أَعْظَمِ دعاةِ الفتنِ
مُعاداةً لهذا المنهَجِ والتَوجيهِ الرَّباني، الأَحْزابَ السياسيةَ التي
تَنْتَسِبُ إلى الإسلامِ وتَدَّعِي نُصْرَتَه، وهُمْ عَلى خِلافِ ذلك، لأَنَّ هذا
التوجيهَ، يَهْدِمُ أُصُولَهُم، ويَفْضَحُ تَوَجُهَهُم عِنْدَ الناسِ وعِنْدَ
أَتْباعِهِم، ويُفَرِّقُ أَتْباعَهُم، ولا يَتوافَقُ مَعَ ما هُم عَليه.
وقَدْ صَدَرَ بيانٌ شافٍ مِن هَيْئَةِ كِبارِ
العَلماءِ حَفِظَهُم اللهُ وَوَفَّقَهُم وَسَدَّدَهُم بِهذا الخُصُوصِ، يَحْسُنُ
الإشارةُ إليه لِأَهَمِّيَّتِه، حَيْثُ تَضَمَّنَ: ( أَمْرَ اللهِ بالاجتماعِ على
الحَقِّ، ونَهْيَهِ عن التَفَرُّقِ والاختِلافِ، وأَمْرَ العِبادِ باتِّباعِ
الصِّراطِ المستقيمِ، ونَهْيَهِم عن السُّبُلِ التي تَصْرِفُ عن الحقِّ. وأَنَّ
ذلك لا يكونُ إلا بِاتِّباعِ صِراطِ اللهِ المُسْتَقِيمِ، وبالاعْتِصامِ بِكتابِ
اللهِ عزَّ وَجَلَّ وسُنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ دَلَّت
الأَدِلَّةُ على أَنَّ مِن السُّبُلِ التي نهَى اللهُ تعالى عَنْ اتِّباعِها:
المَذَاهِبَ والنِّحَلَ المُنْحَرِفَةَ عن الحَقِّ، قالَ بنُ مَسْعُودٍ رضي الله:
خَطَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا بِيَدِهِ ثُمَّ قال: ( هذا سَبِيلُ
اللهِ مُسْتَقِيمًا )، ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِه وشِمالِه، ثُمَّ قال: ( هذِه
السُّبُلُ، لَيْسَ مِنْها سَبِيلٌ إلاّ عَلَيْهِ شَيْطانٌ يَدْعُو إِلَيْه ) ثُمَّ
قَرَأَ: ( وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه ). والاِعْتِصامُ بِكتابِ اللهِ عَزَّ
وَجَلَّ وسُنَّةِ رسولِهِ صلى اللهُ عليه وسلم. هُوَ سَبِيلُ إِرضاءِ اللهِ،
وأَساسُ اجْتِماعِ الكَلِمَةِ، والوِقايَةِ مِن الشُّرُورِ والفِتَنِ. وَكُلُّ ما
يُؤَثِّرُ عَلَى وِحْدَةِ الصَّفِّ حَوْلَ وُلاةِ أُمُورِ المسلمينَ، مِنْ بَثِّ
شُبَهٍ وأَفْكارٍ، أَوْ تَأْسِيسِ جَماعاتٍ ذَاتِ بَيْعَةٍ وَتَنْظِيمٍ، أَوْ
غَيْرِ ذلك، فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِدَلالَةِ الكتابِ والسُّنَّةِ. وفِي طَلِيعَةِ
هذِه الجَمَاعاتِ التي نُحَذِّرُ مِنْها: جَماعَةُ الإخْوانِ المسلمين، فَهِيَ
جَماعَةٌ مُنْحَرِفَةٌ، قَائِمَةٌ عَلَى مُنازَعَةِ وُلاةِ الأَمْرِ والخُرُوجِ
عَلَى الحُكَّامِ، وإثارَةِ الفِتَنِ في الدُّوَلِ، وَزَعْزَعَةِ التَّعايُشِ فِي
الوَطَنِ الواحِدِ، وَوَصْفِ المُجْتَمَعاتِ الإسلاميةِ بِالجاهِلِيَّةِ، وَمُنْذُ
تَأْسيسِ هذه الجماعةِ لَمْ يَظْهَرْ مِنْها عِنايَةٌ بالعقيدةِ الإسلاميةِ، ولا
بِعُلُومِ الكتابِ والسُّنَّةِ، وإنَّمَا غايَتُها الوُصُولُ إلى الحُكْمِ، ومِنْ
ثَمَّ كانَ تاريخُ هذِه الجماعةِ مَلِيئًا بالشُّرُورِ والفِتَنِ، ومِنْ رَحِمِها
خَرَجَتْ جماعاتٌ إِرْهابِيَّةٌ مُتُطَرِّفَةٌ عاثَتْ في البِلادِ والعِبادِ
فَساداً مِمَّا هُو مَعْلُومٌ ومُشاهَدٌ مِن جَرائِمِ العُنْفِ والإرهابِ حَوْلَ
العالَم ).
اللهم
اجْمَعْ كَلِمَتَنا عَلى دِينِكَ، وَوَحِّدْ صَفَّنا، واكْفِنا شَرَّ الفُرْقَةِ
والاخْتِلافِ، واجْعَلْنا هُداةً مُهْتَدِين، اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا
مسلمين، واجعلنا في الآخرة من الصالحين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاما ومحكومين،
اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفظ
بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم أخرجها من الفتن والشرور والآفات
ومن هذا البلاء، واجعلها أقوى مما كنت، وأمكن مما كانت، وأغنى مما كانت، وأصلح مما
كانت، اللهم أصلح أهلها وحكامها واجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم يدا واحدة
على من عداهم يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|