[ بشارة في سورة
فاطر]
لأمة محمد صلى الله عليه وسلم
الخطبة الأولى :
إِنَّ الحمدَ للهِ
نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ
أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا
إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ (( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ
مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ
بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (( يَا
أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ
لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
)) ، أما بعد: فإن خير الكلام كلام
الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة
بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم: افرحوا بفضل الله الكبير عليكم ، وأبشروا فأمتكم
أمةٌ مرحومة ، أمةٌ موعودةٌ بالكرامة ، محسنكم ، والمقتصد
فيكم ، والظالم لنفسه منكم فيما دون الشرك وترك الصلاة ، الكل موعودٌ بالكرامة في الآخرة
.
واسمعوا الدليل من القرآن ، يقول ربنا الرحمن :
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ
اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) .
يقول المفسرون: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ)
أي: آتينا هذا الكتاب (القرآن الكريم) ، وأعطيناه (الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)
المراد بهم: أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهم الْمُصطفَون من الله تعالى لوراثة هذا
الكتاب العظيم .
ثم قَسّم الله تبارك وتعالى هذه الأمة إلى ثلاثة
أقسام فقال : (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) .
القسم الأول: (ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ) وهو المفرط
في فعل بعض الواجبات ، المرتكب لبعض المحرمات التي دون الشرك .
القسم الثاني: (وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ) وهو المُؤدّي
للواجبات التارك للمحرمات، لكنه لا يفعل المستحبات وربما يفعل بعض المكروهات .
القسم الثالث: (وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
بِإِذْنِ اللَّهِ) وهو الفاعل للواجبات والمستحبات ، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض
المباحات . هكذا قال المفسرون رحمهم الله .
وجاء عن
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في سنن الترمذي عن هؤلاء الأقسام الثلاثة المذكورين
في هذه الآية ، قولُهُ عليه الصلاة والسلام: " هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ بِمَنْزِلَةٍ
وَاحِدَةٍ وَكُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ
" رواه الترمذي وحسّنه ، وصححه الألباني .
وجاء عنه
عليه الصلاة والسلام في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الآية: " فَأَمَّا الَّذِينَ سَبَقُوا بِالْخَيْرَاتِ , فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَأَمَّا الَّذِينَ اقْتَصَدُوا , فَأُولَئِكَ يُحَاسَبُونَ
حِسَابًا يَسِيرًا , وَأَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ , فَأُولَئِكَ الَّذِينَ
يُحاَسبُونَ فِي طُولِ الْمَحْشَرِ , ثُمَّ هُمْ الَّذِينَ تَلافَاهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ
, فَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ
إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ". قال الشوكاني عن هذا الحديث : له ما يقويه.
وجاء نحو هذا المعنى عن عبدالله بن مسعود وعبدالله
بن عباس رضي الله عنهما وغيرهما من السلف.
ولذا قال ربنا تبارك وتعالى بعد ذلك في الآية :
(ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي : هذا الاصطفاء لوراثة هذا الكتاب العظيم هو
الفضل الكبير من العليم الخبير لهذه الأمة ، فلا فضل على الأمة المحمدية أعظم من فضل
الله عليها بإنزال الكتاب وإعطائها هذا القرآن الكريم .
ثم قال الله تعالى في الآية التي تلي هذه الآية: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا
وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا
الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ
مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) ، قال
المفسرون : فهؤلاء المُصطَفَوْن بأقسامهم الثلاثة هذا هو مآلهم (جنات عدنٍ يدخلونها)
.
ويؤكد هذا المعنى من السنة الصحيحة ، قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : (أمتي أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة ) حديث صحيح أخرجه
الإمام أحمد وأبو داود وصححه الألباني .
فاللهم يا ذا الحلال والإكرام
ثبتنا على ملةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وسنتِهِ وأمتنا عليهما واحشرنا في زمرتِهِ
يا ذا الجلال والإكرام . بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما
من الآيات والحكمة واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة إن ربي هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمداً كثيراً
طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً إلى يوم
الدين ،، أما بعد:
أيها المسلمون : فضل الله عليكم كبير باصطفائكم في أمة محمد صلى
الله عليه وسلم ، فـكونوا على ما يليق بهذا الاصطفاء و( اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) .
أيها السابقون بالخيرات : اثبتوا وازدادوا
" واستبقوا الخيرات " ، فلكم الكرامة العظمى والقرب عند رب السموات : (وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ، أنتم على الطريق
الذي سلكه الأولون الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
، فلا تستوحشوا فقد سبقكم في هذا الطريق (ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ
الْآخِرِينَ).
ويا أيها المقتصدون : اعلموا أن المقتصدين قد كمّلوا
الفرائض وأدّوها دون نقص ، كالذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم ، لمّا علّمه النبي
عليه الصلاة والسلام الفرائض قال الرجل : " وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا
وَلَا أَنْقُصُ" ولا انقص يعني من الفرائض ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ " ، فجاهدوا أنفسكم على إتمام فرائضكم وعدم دخول
النقص فيها .
واعلموا يا مقتصدون : أن الصلوات الخمس أعظم الفرائض
بعد حق الله الأعظم التوحيد وهي أجلّ ما تكملونه من فرائضكم العملية ، وذلك بإقامتها
كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يقيمها ، في أوقاتها وفي بيوت الله التي فرض الله
عليكم إقامتها فيها ، وإذا أقمتم الصلاة صلح حالكم ، وكانت لكم نوراً وبرهاناً ونجاةً
يوم القيامة .
ويا أيها الظالمون لأنفسهم : لا تتركوا تجديد التوبة
دوماً ، فنبيكم صلى الله عليه وسلم وهو قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، يتوب
في اليوم أكثر من مائة مرة ، وعليكم بالاستغفار ممحاة الأوزار ، وأنتم لا تعلمون بماذا
يُختم لكم ؟ وربكم جل وعلا يقول : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) ، فلا تتمادوا
ولا تأمنوا مكر الله ، ولا تستهينوا بالصغائر فإنها إذا كثرت أهلكت ، فما ظنكم بالكبائر
الموبقات .
قَالَ رجل لأَبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه وهو
على فراش الموت : عِظْنِي بِشَيْءٍ لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُنِي بِهِ وَأَذْكُرُكَ
، فقَالَ أبو الدرداء : «إِنَّكَ فِي أُمَّةٍ مَرْحُومَةٍ ، أَقِمِ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ
، وَآتِ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَصُمْ رَمَضَانَ، وَاجْتَنِبِ الْكَبَائِرَ ـ
أَوْ قَالَ : الْمَعَاصِيَ ـ وَأَبْشِرْ ) رواه ابن المبارك في الزهد .
اللهم يا ذا الجلال والإكرام
آتِ نفوسنا تقواها زكّها أنت خير من زكاها، اللهم زيّنا بزينة الإيمان واجعلنا هداة
مهتدين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ،
اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألْحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين ، اللهم
ألّف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور وجنبنا
الفواحش ما ظهر منها وما بطن وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا
وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قابليها وأتمها علينا
يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم إنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنَّا نسأَلُك خشيتك في
الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى.
ونسألك نعيما لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك برد
العيش بعد الموت. ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة،
ولا فتنة مضلة.
عباد الله: اذكروا الله
يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121 |