بماذا يتفاضل ثواب أعمال الناس
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ))، أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
عباد الله: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة (عليها خطام) فقال : يا رسول الله ، هذه في سبيل الله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لَك بِهَا يَوْم الْقِيَامَة سَبْعمِائَةِ نَاقَة" أخرجه مسلم.
الله أكبر، فضل عظيم، وعطاء جزيل، من رب كريم جواد غني حميد شكور حليم .
عباد الله : فضل الله جل وعلا علينا عظيم ، ومن فضله علينا أن جعل الحسنة التي يعملها المؤمن مضاعفة إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة . ففي الصحيحين يخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى فيقول : "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ .... " الحديث .
وفي الصحيحين: " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ لَه، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، إِلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ " .
أيها الناس : مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها ثابت وحاصل لكل حسنة يعملها المؤمن ، يدل على ذلك قوله تعالى: (( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا )) وفي صحيح مسلم يقول الله تعالى: " مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً، فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا أَوْ أَزِيدُ " .
وأما زيادة المضاعفة فوق عشر الأمثال فهي لمن يشاء الله أن يضاعف له ، قال الله تعالى: (( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ))
فالعباد يتفاوتون في مضاعفة العمل فوق العشر تفاوتاً كبيراً .
أيها المسلمون : هناك مواصفات للعمل ، ومواصفات للعامل ، يمكن أن يزيد بها المؤمن من مضاعفة ثواب عمله عند ربه ، ينبغي للمؤمن الذي يرجو فضل الله العظيم أن يعتني بها ويراعيها .
من هذه المواصفات :
الصفة الأولى : حسن إسلام العامل ، فمن كان استمساكه بالإسلام حسناً ، واستقامته على تعاليمه حسنة ، كانت المضاعفة لعمله أكثر وأكثر .
ففي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْفٍ" ، بل جاء في حديث صحيح عند النسائي: "إذا أسلم العبدُ فحسن إسلامُه كتب اللهُ له كل حسنةٍ كان أزلفها، ومُحيت عنه كلُّ سيئةٍ كان أزلفها، ثم كان بعد ذلك القصاصُ الحسنةُ بعشرة أمثالها إلى سبعمائةِ ضعفٍ، والسيئةُ بمثلها إلا أن يتجاوز اللهُ عز وجل عنها" .
الصفة الثانية : ما يقوم بالقلب من حسن النية ، وقوة الإخلاص . ففي الحديث الشهير المتفق على صحته: (( إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)) .
ولذا جاءت النصوص تدل على تفضيل أعمال السر على العلانية ، وذلك لما يصاحب الأعمال السرية من قوة الإخلاص والبعد عن الرياء والسمعة ، كقول الله تعالى: (( إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ )).
لذا كان السلف يجتهدون في إخفاء أعمالهم ما أمكنهم ذلك . يقول الحسن البصري : لقد أدركنا أقواماً ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في سر إلا أسروا به ولم يكن علانية أبداً .
فليكن من اهتمامك دائماً حسن النية في العمل . فقد يكون بين العامل والعامل من الفضل والمضاعفة كما بين السماء والأرض لتفاضل ما في قلبيهما من صدق التوجه لله وحسن النية وقوة الإخلاص .
ومما يدخل في حسن النية : تعدد النيات في العمل إذا كان يشرع فيه ذلك ، كمن دخل المسجد بعد أذان صلاة الظهر فصلى ركعتين بأربع نيات : تحية المسجد وسنة الوضوء وصلاة ما بين الأذان والإقامة وسنة الظهر القبلية ، فهذا ولا شك أفضل ممن لم ينوي إلا سنة الظهر فقط أو نوى نيتين فقط .
الصفة الثالثة : المضعفة لثواب العمل : حسن المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في العمل ، قال الله تعالى: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ))، فالمتابعة طريق محبة الله، ومضاعفته لثواب العمل .
وحسن المتابعة لها درجتان :
الدرجة الأولى : المتابعة في أصل مشروعية العمل ، بأن يكون عملاً مشروعاً وليس مبتدعاً فيأتي بشروطه وأركانه وما لا يصح إلا به وهذه متابعة واجبة .
الدرجة الثانية : المتابعة في كمال العمل وهي مراعاة هدي النبي صلى الله عليه وسلم الكامل بأن يأتي بسنن ومستحبات هذا العمل ، فما من عمل إلا وقد شرع فيه من السنن والمستحبات ما يزكوا بها ويفضل ، فالوضوء له مستحبات والصلاة لها سنن ومندوبات ، والصيام والحج وسائر الأعمال الصالحة .
ويدل على ذلك النصوص الواردة في فضل العبادات على الصفة الكاملة كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بعدما توضأ وضوءاً كاملاً : " مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " .
الصفة الرابعة : اجتناب المكروهات والمنهيات في العمل وتنزيهه منها .
فمما ورد في النصوص: الالتفات في الصلاة اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ، والإسراف في صب الماء عند الوضوء خلاف السنة ، ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ، ومن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ، و ((قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى)) ، ولكل عمل صالح منهيات ينقص فعلها من أجره .
الصفة الخامسة : اختيار الوقت الفاضل للعمل ، وفق ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلاة الفجر والعصر والمغرب في أول وقتها أفضل ، وتأخير العشاء أفضل والإبراد بصلاة الظهر في الحر أفضل ، وأداء زكاة الفطر قبل صلاة العيد أفضل ، وذبح الأضحية يوم الأضحى الأول أفضل ، وتعجيل الفطر للصائم وتأخير السحور أفضل ، وصلاة الثلث الأخير من الليل أفضل ، وقيام الليل وصلاة الليل في الجملة أفضل من صلاة النهار ، وصيام الاثنين والخميس والبيض أفضل. والاستغفار بالسحر أفضل. وأذكار الصباح قبل طلوع الشمس أفضل، ورمضان والأشهر الحرم وعشر ذي الحجة تضاعف فيها الأعمال الصالحات وتكثر الحسنات .
الصفة السادسة : اعتبار المكان الذي أديت فيه .
فمكة والمدينة والشام بلدان دلت النصوص على شرفها وفضل العمل فيها .
فالصلاة في المسجد الحرام خير من مئة ألف صلاة
والصلاة في المسجد النبوة خير من ألف صلاة .
والصلاة في المسجد الأقصى خير من مائتين وخمسين صلاة ، على هذا دلت الأحاديث الصحيحة .
وصلاة ركعتين في مسجد قباء كعدل عمرة .
وصلاة الفريضة في جماعة في عموم المساجد تضاعف عن الصلاة في البيت والسوق بخمس وعشرين درجة .
وصلاة النافلة في البيوت أفضل من صلاتها في المساجد .
أما الصلاة في مساجد ادُّعي لها الفضيلة كالمساجد التي فيها مشاهد وقبور صالحين وأولياء، فإن لم تبطل الصلاة فيها فأجرها منقوص على تفصيل للعلماء من حيث سبق المسجد أو القبر، ومن حيث مكان القبر من المسجد .
فيا عباد الله : ابتغوا الفضل والرضوان من ربكم ، واقتدوا بأسلافكم الذين وصفهم الله بقوله (( يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا )) واغتنموا الفضائل تحوزوا الأضعاف الكثيرة .
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من المواعظ والحكمة ، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العالَمِينَ الرّحمنِ الرّحيمِ مَالكِّ يَومَ الدِّينِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحق المبين، وأشهد أنَّ محمدًا خاتم النبيّين وأفضل المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين . أما بعد :
الصفة السابعة : المداومة على العمل " فَأَحَبُّ الأَعمَالِ إِلى اللهِ أَدوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ " فهو أفضل من العمل الكثير الثقيل المتقطع ففي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: " أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُوِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ " .
ويرتبط بالمداومة على العمل القليل، صفة الاقتصاد والتيسير في العمل وعدم المشادة فيه، ففي البخاري معلقاً: " أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ " وفي مسند أحمد بسند صحيح: " إِنّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ " وفي البخاري قال صلى الله عليه وسلم " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ، والقصد تبلغوا "
فيا عباد الله : تنافسوا في طلب المضاعفة من ربكم وخذوا بأسبابها ، وأحسنوا أعمالكم يحسن الله ثوابكم وجزاءكم ، فربكم غني كريم شكور .
اللهم إنَّا نسأَلُك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى. ونسألك نعيما لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت. ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة. اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين ، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قابليها وأتمها علينا يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام. اللهم ادفع عن بلادنا مضلات الفتن ، اللهم من أراد بلادنا وبلاد المسلمين بسوء وفتنة فاجعل كيده في نحره يا قوي يا متين .
اللهم انصر جُندنا المرابطين، اللهم سدد رميهم واربط على قلوبهم وثبت أقدامهم وأنزل عليهم النصر من عندك يا قوي يا متين، اللهم من مات منهم فتقبله في الشهداء يا رب العالمين ، ومن أصيب فألبسه ثياب الصحة والعافية يا لطيف يا رحيم يا كريم.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم .
ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121 |