أيَّامُ اللهِ ويومُ عاشوراءَ وفَضْلُ هذه الأُمَّة
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عباد الله: اتقوا الله تعالى، وآمِنُوا باللهِ ورسولِه، واعلمُوا أنه قد ورَدَ في كتابِ اللهِ آياتٌ كثيرةٌ تَحُثُّ على الاعْتِبارِ والتّذّكُّرِ والنَظَرِ في أحوالِ مَنْ سَبَق، والاستِفادةِ منها. ومِمَّا ورَدَ في ذلك: ما جاءَ في خِطابِ اللهِ لِموسى عليهِ السلام، وأَمْرِهِ بِتَذْكِيرِ بنِي إسرائيلَ بأيامِ اللهِ. قال تعالى: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ). والمرادُ بِأيَّامِ اللهِ هُنا أمران:
الأول: النِّعمُ التي أنعَمَ اللهُ بِها على بنِي إسرائيل، حَيْثُ أنجاهُم من آل فرعونَ، وفَلَقَ لَهُمُ البحرَ، وظَلَّلَ عليهِمُ الغَمَامَ، وأنزلَ عليهم الْمَنَّ والسَّلْوَى.
الثاني مِن الْمرادِ بأيامِ اللهِ: وقائِعُهُ وأحْداثُه. لأن لَفْظَ الأيامِ في لِسانِ العربِ مُسْتَعْمَلٌ لِلوقائِعِ. فـأيامُ اللهِ هي: أيَّامُ ظُهُورِ قُدْرَتِهِ، وإهْلاكِه الكافرينَ، ونَصْرِهِ أوْلياءَه والمُطيعِين له.
عبادَ الله: إن يَوْمَ عاشوراء، مِنْ أيامِ اللهِ العَظِيمَة التي لا يَنَبغِي للمؤمِنِ أن يَغْفَلَ عنه، وينْسَى فَضْلَه وقَدْرَه، روى البخاريُّ ومسلم عن ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما قال: "قَدِمَ النّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم المدينةَ، فَرَأَى اليهودَ تصومُ يَوْمَ عاشوراءَ، فقال: ( ما هذا؟ ) قالوا: هذا يَوْمٌ صالِحٌ، هذا يَوْمٌ نَجَّى اللّهُ بَنِي إسرائيلَ مِنْ عَدُوِّهِم، فصامَهُ موسى، قال: ( فَأنا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُم )، فَصامَهُ وأَمَرَ بِصيامِـه ". فكانَ صومُهُ في أوَّلِ الأمْرِ واجِباً، إلى أَنْ فَرَضَ اللهُ صيامَ رمضانَ، فَنُسِخَ صَومُ عاشوراءَ مِنَ الوجوبِ إلى الاستِحباب.
ففِي هذا الحديثِ العظيمِ الذي تَحَدَّثَ عَن يومٍ مِنْ أيامِ اللهِ، فوائدٌ وعِبَرٌ كثيرة، نّذكُرُ مِنها خَمْسَ فوائِدَ مُهِمَّة:
أولُها: أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ وأمَّتَه، أحَقُّ الناسِ بِرُسُلِ الله، لأنَّ إيمانَهُمْ بِرسُلِ اللهِ أكْمَلُ وأتَمُّ، قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ). ويكفي في ذلكَ أنَّ الرُّسُلَ السابقينَ لاقَوْا مِن أقْوامِهِم الصُّدُودَ والتَكذِيبَ وكَثْرَةَ طَلَبِ الآياتِ والبراهينِ الشيءَ الكثيرَ، مِنْ أجْلِ تَصْدِيقِهِم. وأما هذه الأمةُ فَقَدْ آمَنَتْ بِرُسُلِ اللهِ جميعاً بِمُجَرَّدِ قراءةِ أخبارِهم في كتابِ الله، ويَدُلُّ على ذلك ما رواهُ البُخاريُّ في تفسيرِ قوله تعالى: ( لِتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي اللهُ عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ( يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيُقَالُ لأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ ).
الفائدةُ الثانيةُ في الحديث: مَشْرُوعِيَّةُ صَومِ يومِ عاشوراء، وهو اليوم العاشِرُ مِن محَرَم، فقد سُئِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سئل عن صومِ يومِ عاشوراء ؟ فقال: ( يُكفرُ السنةَ الْماضية ). وينبغي أن يُصَامَ مَعَهُ اليومُ التاسعُ لأن الصحابةَ رضي اللهُ عنهم قالوا: إنه يومٌ تُعَظِّمُهُ اليهودُ والنصارى؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا كان العامُ الْمُقبلُ صُمْنَا اليومَ التاسع ) فلمْ يأتِ العامُ الْمقبلُ حتى تُوُفِّيَ رسولُ اللهِ صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه. فالأكملُ هو صومُ التاسعِ مع العاشرِ، ومَنْ أرادَ إفرادَ اليمِ العاشرِ فلا حرجَ عليه.
الفائدةُ الثالثة: التَذْكِيرُ بأنَّ العِزَّةَ للهِ ولِرَسُولِهِ ولِلمُؤمنين. والعِزَّةُ: هي الرِّفْعَةُ والقُوَّةُ والغَلَبَةُ والتَمكين. فَمَتى ما تَوَفَّرَتْ في المُسلِمين أسبابُ النَّصْرِ نَصَرَهُم الله، لأنَّ الأمورَ لا تَتَحَقَّقُ إلا بِوُجودِ أسبابِها، فإذا وُجِدَت، يَسْتَحيلُ أن يَتَخلَّفَ النصرُ، لأنَّه وَعْدٌ مِنَ الله، واللهُ لا يُخْلِفُ الميعاد.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عبادَ الله: الفائدةُ الرابعَةُ في حديثِ فَضْلِ يومِ عاشُوراء: بَيانُ ضَلالِ الرافضةِ، وأَنَّهُم في مَعْزِلٍ عَنْ شَرائِعِ الإسلامِ وأحكامِه ومُناسَبَاتِه، لأنَّ الأُمَّةَ تَصُومُه لِلسبَبِ المُشارِ إليهِ آنفاً، بَلْ حتى اليهودُ. وأما الرافضةُ فإنهُم في وادٍ آخَر، حيثُ يجعلونه يومَ حزنٍ ومَأْتَمٍ بسببِ قَتْلِ الحسين رضي الله عنه، ويَذْكُرُونَ مَا حَلَّ به يومَ قَتْلِه، ويبكونَ عليه، وَيُعَذِّبُونَ أَنْفُسَهُم بألوانِ العذاب. وهذا ضَلالٌ واضِحٌ، يُدْرِكُهُ الصِّغَارُ قَبْلَ الكِبارِ، والسُّفَهاءُ قَبْلَ العُقَلاء.
الفائِدَةُ الخامِسة: إقامَةُ الحُجَّةِ على اليهود والنصارى، وأن هذا الدينَ حَقُّ. لأنَّ الْمُسلمينَ يَصُومونَه فَرَحاً بِنَجاةِ موسى عليهِ السلامُ وقومِهِ. وشُكْراً للهِ على ذلك. ومَعَ ذلكَ لا يَعْتَبِرُ أَهْلُ الكتابِ بِهذا الموقِفِ العظيمِ مِن المسلمين. مَعَ العلمِ أنَّ الحُجَّةَ قامَت على أَهْلِ الكتابِ عُمُوماً بِمُجَرَّدِ سماعِهِم بِبِعْثَةِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلم، قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( والذي نَفْسِي بِيَدِه، لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِه الأُمَّةِ، يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِن بِالذي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاّ كانَ مِنْ أَهْلِ النار ). فَنَحْمَدُ
اللهَ الذي هدانا للإسلام، وجَعَلَنا من أُمَّةِ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم.
اللَّهُمَّ ثبتنا على دِينِك، واحشُرْنا في زُمْرةِ محمدٍ صلى اللهُ
عليه وسلم وأصحابِه يا رب العالمين، اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمارِنا أَواخِرَها، وَخَيْرَ أَعْمالِنا
خَواتِمَها، وَخَيْرَ أَيَّامِنا يَوْمَ لِقائِكَ يا أَرْحَمَ الراحِمِين، اللَّهُمَّ
أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، اللهُمَّ أصلحْ لنا
دينَنا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلحْ لنا دنيانَا التي فيها معاشُنا، وأصلحْ لنا
آخرتَنا التي فيها معادُنا واجعل الدنيا زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ والْموتَ راحةً
لنا من كلِّ شرٍّ، اللهم خَلِّصْنا من حقوقِ خلقِك، وباركْ لنا في الحلالِ من
رزقِك، وتوفَّنا مسلِمِين وألحقْنَا بالصالحينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ
وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ
الْمُوَحِّدِيْنَ، اللهُمَّ أصلحْ أحوالَ المسلمين، اللهُمَّ ارفع البلاءَ عن
الْمستضعفينَ من الْمؤمنين في كلِّ مكانٍ، اللهم احفظْ بلادَنا من كيدِ الكائدينَ
وعُدْوانِ الْمُعتدينَ، اللهُمَّ وَفِّقْ ولاةَ أمرِنا بتوفيقِك، وأيِّدْهم
بتأييدِك، واجعلهم من أنصارِ دينِك، وارزقْهُم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ يا ذا
الجلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ اغفرْ للمسلمين والمسلماتِ والمؤمنين والمؤمناتِ
الأحياءِ منهم والأمواتِ، إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ ، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|