الأَشْهُرُ الْحُرُمُ
وَالتَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ الْأَمْن
خطبة جمعة بتاريخ / 2-1-1439 هـ
إنَّ الحمد لله ؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من
شرور أنفسِنا وسيئات أعمالنا ؛ من يهده الله فلا مُضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي
له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له،وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله ، وصفيُّه
وخليله ، وأمينه على وحيه ، بلَّغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في
الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، فما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه ، ولا شرًا
إلا حذرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله؛ فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده
إلى خير أمور دينه ودنياه . وتقوى الله جل وعلا عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله
رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله .
أيها
المؤمنون : إن الرب العظيم سبحانه يخلق ما يشاء ويختار عن علمٍ وحكمة جل في علاه ؛
اصطفى جلَّ وعلا من الملائكة رسلًا ومن الناس، واصطفى من البقاع بقاعًا خصَّها
بمزيد الفضل، وخصَّ أزمنةً شرَّفها بمزيد فضل وعظيم مكانة، وهذا الشهر الذي نعيش
أوَّله -شهر الله المحرم- هو واحدٌ من شهور أربعة عظَّم الله شأنها وميَّزها من
بين الشهور ، قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا
عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة:36]
، ولئن كان الظلم في كل وقتٍ
وحينٍ محرما فإنه في هذه الشهر أعظم خطورة وأشدَّ عقوبة.
أيها
المؤمنون: وهذه الشهور الأربعة المحرمة جاءت ثلاثة سرد وهي: ذو القعدة وذو الحجة
وشهر الله المحرم ، وواحدٌ فرد وهو شهر رجب . قال أهل العلم : وإنما كانت كذلك
تعظيمًا لبيت الله وإعانةً على إقامة شعيرتي الحج والعمرة بأمنٍ وأمان ؛ فذي
القعدة سمي بذلك قيل لأنهم يقعدون فيه عن القتال ، وذو الحجة لأنه تقام فيه شعيرة
الحج، وشهر الله المحرم ليعود من حج إلى وطنه بأمنٍ وسلام، وجاء شهر رجب في وسط
الحول لمن أراد زيارة البيت والاعتمار .
وقد كانت
هذه الشهور -عباد الله- معظمةً حتى عند أهل الجاهلية فإذا دخلت توقفوا عن القتال ،
وتأمل في ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في ذكر مجيء وفد
عبد القيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو من أوائل الوفود مجيئا إلى النبي
عليه الصلاة والسلام ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم
قالوا: «إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ-أي مسافة طويلة-وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ
هَذَا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، وَإِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ
إِلَّا فِي الشَهْرِ الْحَرَامِ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍفَصْلٍ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ
وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الجَنَّةَ»
أيها
المؤمنون : ولقد منَّ الله على الأمة بمبعث النبي الكريم عليه الصلاة والسلام
وبهذا الدين العظيم الذي بُعث به صلى الله عليه وسلم ، فخيَّم على أرض الجزيرة
وغيرها بمنِّ الله وفضله الأمنَ والإيمان والسلامة والإسلام وتخلَّص الناس من شرورٍ
عظيمة وتعدِّيات آثمة ؛ من سفكٍ للدماء ، وعدوانٍ على الأنفس المعصومة ، وتعديات
على الأموال المحترمة ، وانتهاك للأعراض ، وسبي للأموال، وغير ذلك مما كانت النعمة
على الأمة عظيمة بالخلاص من تلك الشرور والنجاة من تلك العظائم بمبعث النبي الكريم
عليه الصلاة والسلام وبالهداية لهذا الدين القويم العظيم ، ولله الحمد أولًا وآخرا
.
معاشر المؤمنين : ثم عاد إلى الأرض وإلى أرض الجزيرة وضعٌ مماثلٌ للوضع
السابق من انتهاكٍ للأعراض وسفكٍ للدماء وقطعٍ للطريق وإخلالٍبالأمن لما بعُد
الناس عن معين الرسالة وهدي النبي الكريم عليه الصلاة والسلام ، حتى إن الناس وفي
هذه الجزيرة لا يأمنون حتى في طريقهم للحج أو العمرة ، وكان ذلك الأمر إلى وقتٍ
قريب ، حتى منَّ الله على الأمة بمنة عظيمة وعطيةٍ جسيمة أن تماسك شملها والتئم
تفرقها والتحم تمزقها فضلًا من الله ومنًّا بأن توحَّدت على يد الملك المؤسس
عبدالعزيز بن عبدالرحمن رحمه الله تعالى ، فاجتمعت القلوب بعد شتاتها والكلمة بعد
فرقتها، وزال عن الناس ما كانوا يعانون منه من شر وعدوان وإراقةٍ للدماء وقطعٍ
للطريق وانتهاكٍ للأعراض ، زال ذلك كله بمنِّ الله وفضله جل في علاه ، وتماسكت هذه
الجزيرة ملتئمٌ شملها متحققٌ أمنها متزايدٌ رخاؤها ، كل ذلك بفضل الله عز وجل وما
وفَّق له جل وعلا هذا الملك المؤسس رحمه الله تعالى .
وفي خطابٍ له رحمه الله يذكِّر فيه الناس بهذه النعمة العظيمة والمنَّة
الجسيمة التي منَّ الله بها يقول فيه رحمه الله : «ولا يخفى عليكم ما مضى عليه
أسلافكم من الأعراب من انحرافهم عن الدين والتقيد بشريعة سيد المرسلين بما يأتونه
من ارتكاب الأمور التي تُغضب الله ورسوله من استحلال الدماء ونهب الأموال وترك
فرائض الإسلام ، فأنتم اليوم لما أنَّ الله جل شأنه منَّ عليكم بهدايته لكم إلى
دينه القويم وجب عليكم أن تقيِّدوا تلك النعمة بالشكر للمُنعم تبارك وتعالى ،
وأعظم الشكر لله هو اتباع أمره واجتناب نهيه على وفق ما جاء به نبيه الكريم عليه
أفضل الصلاة والسلام، وألا تحيدوا عنه ذات اليمين وذات الشمال فتكونوا من الهالكين»
انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
نعم -عباد الله- يجب علينا في هذه البلاد معشر المسلمين أن نذكر نعمة الله
علينا بهذا التماسك والتلاحم والاجتماع، وأن نُعنى عنايةً عظيمة بشكر المنعِم جل
في علاه على ما يسَّره لنا في هذه الديار من أمنٍ وأمان وعافيةٍ وإسلام ورخاءٍ في
العيش إلى غير ذلك من النعم التي تستوجب ذِكرًا للمنعم جل في علاه وحمدًا له وثناء
.
أيها
المؤمنون : إن الواجب على كل واحدٍ منا أن يكون حريصًا أشد الحرص على ما يكون به
الائتلاف والتراحم والتعاطف والتآزر ، وأن يحذر كل واحدٍ منَّا أسباب الفرقة
وموجباتها ، أن يحذر من ذلك أشد الحذر لأن الاجتماع رحمة ، والفرقةَ عذابٌ وشتات .
أيها المؤمنون
: لقد جاءت النصوص متكاثرة في سنة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام حثًا على
الائتلاف ونهيًا عن الفرقة ودعوةً إلى لزوم الجماعة وطاعة الإمام في طاعة الله جل
في علاه ، والتحذير من الافتيات عليه والخروج عن طاعته وركوب أيِّ باب من أبواب
الفتنة ، لأن ذلك لا يجلب للمرء إلا الشر والخزي في الدنيا والآخرة .
نسأل الله جل في علاه أن يحفظ
علينا وعلى المسلمين أمننا وإيماننا وسلامتنا وإسلامنا ، وأن يعيذنا من الفتن ما
ظهر منها وما بطن ، وأن يصلح لنا شأننا كله ، وأن لا يكلناإلى أنفسنا طرفة عين .
أقول هذا القول وأستغفر الله
لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ
محمداً عبدُه ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد عباد
الله : اتقوا الله تعالى ، وراقبوه في السر والعلانية والغيب والشهادة.
أيها
المؤمنون: لقد ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم الحث على الإكثار من الصيام في شهر
الله المحرم ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم الترغيبُ في صيام اليوم العاشر من شهر
الله المحرَّم وصيام يومٍ قبله وقال عليه الصلاة والسلام: ((أَحْتَسِبُ عَلَى
اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)).
نسأل الله عز وجل أن
يغنِّمنا خيرات مواسم الخيرات وبركاتها ، وأن يعيننا على طاعته ، وأن لا يكلنا على
أنفسنا طرفة عين .
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله-
على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال:﴿إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾[الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى
الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا
عَشْرًا)).
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل
إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ؛ أبى
بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعهم
بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم
انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر
إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كُن لهم ناصرًا ومُعِينا وحافظًا
ومؤيِّدا ، اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم احفظ
حدودنا ، واحفظ جنودنا، ويسِّر أمورنا ، وجنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن . اللهم
يا ربنا وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال
.
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكِّها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها
. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات الأحياء منهم والأموات .اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقَّه وجلَّه، أوله
وآخره ، علانيته وسره . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
.
سبحان ربك
رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها
هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125 |