اثْنَتانِ
عُقُوبَتُهُما مُعَجَّلَةٌ (مشكولة)
إِنَّ
الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ
شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا
مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد،
أيُّها
الناسُ: اتَّقُوا اللهَ تَعالى، واحْذَرُوا أسْبابَ سَخَطِهِ وعُقُوبَتِهِ،
واعْلَمُوا أَنَّ مِنْ الذُّنُوبِ ما تَكُونُ عُقُوبَتُها مُعَجَلَةً فِي
الدُّنْيا قَبْلَ الآخِرَةِ، ومِنْ هذِه الذُّنُوبِ: ما وَرَدَ في قَوْلِ النبيِّ
صلى اللهُ عليه وسلم: ( بَابَانِ مُعَجَّلانِ عُقُوبَتُهُمَا في الدُّنْيا:
البَغْيُ والعُقُوقِ ).
أمَّا
العُقُوقُ: فُهُوَ - الإساءةُ، وتركُ الإحسانِ إلى الوالِدَيْنِ-.
فَأَمَّا
الإساءَةُ: فَهِيَ مُحَرّمَةٌ بِكُلِّ أَنْواعِها
ودَرَجاتِهَا، ولَوْ كانَتْ في نَظَرِ الناسِ شَيْئًا يَسِيرًا، فَيَدْخُلُ في ذلك
تَعْبِيسُ الوَجْهِ، وكذلكَ أَخَفُّ عِباراتِ التَضَجُّرِ كَمَا قال تعالى: (فَلاَ
تَقُل لَّـهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ).
وهَكَذا الإِحْسانُ: فَإِنَّه واجِبٌ بِجَمِيعِ أَنْواعِهِ، بِالقَوْلِ والفِعْلِ
والْمالِ، لأنَّ اللهَ أَمَرَ بالإحسانِ إِلَى الوالِدَيْنِ، وَلَمْ يُحَدِّدْ
نَوْعًا مِنْ أَنْواعِ الإحسانِ، فَدَلَّ عَلَى عُمُومِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ.
فَمَنْ تَرَكَ الإحسانَ إِلَيْهِما، فَهُوَ مُسِيءٌ لِوَالِدَيْهِ.
وَعُقُوبَةُ العُقُوقِ يا عِبادَ اللهِ مُعَجَّلَةٌ فِي الدُّنْيا
مَعَ ما يُدَّخَرُ لِلْعاقِّ مِن العُقُوبَةِ فِي الآخِرَةِ، مَا لَمْ يَتُبْ.
فَهُوَ سَبَبٌ لِحُلُولِ اللَّعْنَةِ، وذَهابِ بَرَكَةِ العُمُرِ والْمالِ.
وَسَبَبٌ لِتَعْسِيرِ الأُمُورِ، وَسُوءِ السُّمْعَةِ وعُقُوقِ الأَبْناءِ،
فَإِنَّ الجَزاءَ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ. وَسَبَبٌ لِمَنْعِ اسْتِجابَةِ الدُّعاءِ
فَإِنَّ العاقَّ لا يُسْتَجابُ دُعاؤُهُ والعِياذُ بِاللهِ، وَسَبَبٌ لِبُغْضِ
العِبادِ لَه.
أَضِفْ
إلى ذلك: ما يُبْتَلَى بِهِ مِن سُوءِ الخُلُقِ وَضِيقِ الصَّدْرِ وبَذاءَةِ
اللِّسانِ، فَإِنَّ العاقَّ لا يَهْتَدِي إِلى الأخْلاقِ الطَّيِّبَةِ والعِياذُ
بِاللهِ.
وَأَمَّا
البَغْيُ: فَهُو التَّعَدِّي عَلَى الغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ، والتَسَلُّطُ،
والظُّلْمُ. وَيَكُونُ عَلَى النَّفْسِ، أَوْ العِرْضِ، أو المالِ. قال رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم: ( فَإِنَّ دِماءَكُمْ، وَأَمْوالَكُمْ، وَأَعْراضَكُم، عَلَيْكُمْ
حَرامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا ). وَيْدْخُلُ فِي البَغْيِ: الخُرُوجُ عَلَى وَلِيِّ
الأَمْرِ الْمُسْلِمِ، وسَفْكُ الدِماءِ، ونَشْرُ الفَوْضَى، والإِخْلالُ
بِالأَمْنِ، ولَوْ كانَ أَصْحابُهُ يَدَّعُونَ الإصْلاحَ. فالبَغْيِ ضَرَرُهُ مُتَعَدٍّ، يَدُلُّ على الاسْتِعْلاءِ،
وفَسادِ النُّفُوسِ، وذَهابِ الرَّحْمَةِ مِن القُلُوبِ.
وإذا كانَتْ عُقُوبَةُ هَذَيْنِ
الذَّنْبَيْنِ مُعَجَّلَةً، فَلازِمُ ذلكَ أَنَّ ثَوابَهُمَا مُعَجَّلٌ أَيْضًا،
لِأَنَّ لازِمَ الحَقِّ لابُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَقًّا.
فَبِرُّ الوالِدَيْنِ: سَبَبٌ
لِسَعَةِ الرِّزْقِ، وَطُولِ العُمُرِ، وانْشِراحِ الصَّدْرِ، والثَّناءِ الحَسَنِ،
وَبِرِّ الأَبْناءِ، والخُرُوجِ مِن الْمَآزِقِ والكُرُبَاتِ.
وَهُوَ أَيْضًا: سَبَبٌ
لِاسْتِجابَةِ الدُّعاءِ، فَإِنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلمَ بَيَّنَ
أَنَّ أُوَيْسًا القَرَنِيَّ مُسْتَجابُ الدَّعْوَةِ بِسَبَبِ بِرِّهِ بِأُمِّهِ.
وهَكَذا مَا
يَتَعَلَّقُ بِالبَغْيِ: فَإِنَّ ضِدَّهُ العَدْلُ والرَّحْمَةُ،
والإِحسانُ، وصَنائِعُ الْمَعْرُوفِ. يُرْوَى عن النبيِّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم
أَنَّه قال: (صَنائِعُ المَعْرُوفِ تَقِي مَصارِعَ السُّوءِ). وقال أيضاً: (صِلَةُ
الرَّحِمِ، وَحُسْنُ الخُلُقِ، وحُسْنُ الجِوارِ، تُعَمِّرُ الدِّيَارَ، وتَزيدُ
فِي الأَعْمَارِ). ولازِمُ ذلكَ: أَنَّ ضِدَّ هذِه الأعْمالِ تُدَمِّرُ الدِّيارَ،
وتُقَصِّرُ فِي الأَعْمارِ.
وتَأَمَّلُوا يا عِبادَ اللهِ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: (
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا
خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا ).
فَإِنَّ فِيهِ مَوْعِظَةً لِمَنْ تَوَلَّى أَمْرَ يَتِيمٍ أَوْ ضَعِيفٍ أَوْ
مَجْنُونٍ، أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ فِيهِ وفِي الإحسانِ إِلَيْهِ. فَإِنَّه إنْ
فَعَلَ ذلك، حَفِظَ اللهُ ذُرِّيَّتَه مِن بَعْدِه، مُكافَأَةً لَهُ عَلَى
صَنِيعِهِ.
فَأَحْسِنُوا
رَحِمَكُم اللهُ إلى اليَتامَى، والضُّعَفَاءِ، والأَرامِلِ، وَأَبْشِرُوا
بِحِفْظِ اللهِ لِذُرِّيَّاتِكُمْ مِنْ بَعْدِكُمْ، ولا تَخافُوا عَلَيْهِمْ ولا
تَحْزَنُوا، فَإِنَّ هذا ضَمَانٌ مِن اللهِ لَكُمْ مُتَحَقِّقٌ لا مَحَالَةَ،
ونِعْمَ الضَّامِنُ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم
وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحمدُ للهِ ربِّ
العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين،
وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ أَنَّ
مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ
وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عبادَ الله: رَوَى الإمامُ مسلمٌ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رضيَ اللهُ عَنْه قال: قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: ( بَيْنَا
رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِن الأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحابَةٍ: اِسْقِ حَدِيقَةَ
فُلان. فَتَنَحَّى ذلك السَّحابُ، فَأَفْرَغَ ماءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذا شَرْجَةٌ
مِنْ تِلْكَ الشِّراجِ قَدْ اسْتَوْعَبَتْ ذلكَ الماءَ كُلَّه، فَتَتَبَّعَ الماءَ،
فَإِذا رَجُلٌ قائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ، يُحَوِّلُ الماءَ بِمِسْحاتِه، فَقالَ
لَهُ: يا عَبْدَاللهِ، ما اسْمُكَ؟ قال: فُلانٌ. لِلاسْمِ الذي سَمِعَ فِي
السَّحابَةِ. فَقالَ لَهُ: يا عَبْدَاللهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَن اسْمِي؟ فَقالَ:
إنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ يَقُولُ: اسِقِ حَدِيقَةَ
فُلانٍ، لِاسْمِكَ! فَمَا تَصْنَعُ فِيها؟ قال: أَمَا إِذْ قُلْتَ هذا، فَإِنِّي
أَنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وآكُلُ أَنَا
وَعِيالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيها ثُلُثَه ). فانْظُرُوا
رَحِمَكُم اللهُ كَيْفَ أَنْزَلَ اللهُ البَرَكَةَ عَلَى هذِهِ الحَدِيقَةِ،
واعْلَمُوا أَنَّ مِثْلَ هذِهِ البَرَكَةِ لَيْسَتْ خاصَّةً بِحَدِيقَةِ
هذا الرَّجُلِ، بَلْ هِيَ عامَّةٌ لِكُلِّ صاحِبِ مالِ يَقُومُ بِمِثْلِ هذا
العَمَلِ العَظِيمِ، سَواءً كانَ زِراعَةً أو تِجارَةً، أوْ راتِبًا شَهْرِيًّا.
اللهم
أعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، واجْعَلْنا مِنْ أَهْلِ
المَعْرُوفِ والإِحْسانِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، اللهم إنا نعوذ بك من زوال
نعمتك وتحول عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب
إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم احفظنا
بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا
أعداء ولا حاسدين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحمِ
حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان يا رب العالمين. اللهم من أراد
بلادنا بسوءٍ فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميرًا له يا سميع
الدعاء، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك،
اللهم حببّ إليهم الخير وأهله وبغّض إليهم الشر وأهله وارزقهم البطانة الصالحة
الناصحة لهم يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات. ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|