من أسماء الله: القوي المتين الغالب
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القوي الغالب المتين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما إلى يوم الدين. أما بعد :
عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى سمَّى نفسه ب (القويّ , العزيز, المتين) في كثير من النصوص القرآنية؛ فمنها قوله تعالى :{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. (الأنفال:52)، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَاب}(غافر:22).
ومعنى القويُّ هو التام القوة الذي لا يستولي عليه العجز في حال من الأحوال فهو سبحانه صاحبُ القدرة المطلقة والمشيئة الكاملة .
والقوَّة خلاف الضعف والعجز، وهي الاستعداد الذاتي للقيام بالفعل، والله سبحانه قويٌّ في ذاته غيرُ عاجز، لا يعتريه ضعف أو قصور.
وغالباً ما يقترن اسم الله القوي باسمه العزيز في مثل قوله تعالى:{ اللهُ لطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (الشورى:19) وقوله:{مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:74)، ليبيِّنَ أنَّ قوَّته سبحانه عن عزَّة وغنى وقدرة وحكمة فامتنع أن يناله احد من المخلوقات بشيء بل وقهر جميع الموجودات , وكذا اسم المتين فهو الشديد القوي الذي لا تنقطع قوته ولا تلحقه في أفعاله مشقة ولا يمسه نصب.
ثم في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم فقد ورد اسم الله القوي مقترناً باسم الله العزيز، فمن هذه الأحاديث ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها في ذكرها لقصة يوم الخندق أنها قَالتْ: ((وَبَعَثَ اللهُ عَزَّ وَجَل الرِّيحَ عَلى الْمُشْرِكِينَ فَكَفَى اللهُ عَزَّ وَجَل الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً)).
عباد الله: إذا عَلِمَ المسلم معانيَ اسم الله : القوّي العزيز المتين أثمر في قلبه ثمرات فمنها أن يتعزز العبد بقوَّت الله سبحانه، وأن يلتجئ إلى حِمَاه وقوَّته، فمن استمد قوَّته من الله عزّ وجل، فلن تغلبه قوى الأرض كلّها ولو اجتمعت، وبدأ يسعى في الأرض ليحصّل مصادر القوَّة المعنوية والمادية ليتمكَّن منها، وليعمل على تحقيق قوله تعالى :{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }.(الأنفال:60). لأنَّه أمرٌ إلهيٌّ جازمٌ بإعداد كلّ ما في الاستطاعة من قوَّة، ولو بلغت القوة من التطوّر ما بلغت.
والقوَّة عند المؤمن مُرغَّب فيها ، فالمؤمن القويّ محبوبٌ عند الله سبحانه، ففي صحيح مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المُؤمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلى اللهِ مِنَ الْمُؤمِنِ الضَّعِيفِ وفي كُلٍّ خَيرٌ احرص على مَا يَنفَعُكَ وَاستَعِن بِالله وَلا تَعجِزْ )) فإذا امتلك المؤمن القوَّة فعليه أن يسخرها في طاعة الله سبحانه وفي عمارة الأرض بالخير والعمل الصًّالح .
ومن الثمرات: أن يعتقد المؤمن أن عاقبة الظلم وخيمة فهذا العبد الذي يبارز ربه ويشرك به – رئيساً كان أو مرؤوسا- ويفسد في الأرض من قتل وسفك دم ويتكبر فيها بغير الحق خصوصاً إذا حباه الله النعم مثل الملك والجاه والولد والمال لاشك أن الله سينتقم منه , وتأملوا ما قص الله علينا عن الأمم السابقة التي طغت قال تعالى عن قوم هود (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) (فصلت:15)، فماذا كان عاقبة أمرهم : (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ) (فصلت:16)، اغتروا بقوة أبدانهم وضخامة أجسادهم وعظيم بطشهم في البلاد والعباد – كحال بعض الطغاة هذه الأيام – فلم تغن عنهم من عذاب الله.
ومن الثمرات المهمة: أنه لا قوة للعبد على طاعة الله إلا بقوة الله وتوفيقه ولا حول له على اجتناب المعاصي ودفع الشرور ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن قيس: ( ألا أعلمك كلمة هي من كنوز الجنة : لا حول ولا قوة إلا بالله ) متفق عليه وسبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله واعتراف بالإذعان له .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد : أيها المؤمنون
ومن أسماء الله الحسنى المقارب لمعنى اسم "القوي والمتين , اسم: الغالب والنصير. قال تعالى في إثبات اسم " الغالب" : (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يوسف (21). وورد اسم (النصير) في أربعة مواضع منها قوله تعالى: ( فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الأنفال:40
والغالب: معناه الذي يفعل ما يشاء لا يغلبه شيء ولا يرد حكمه راد، ولا يملك أحد رد ما قضاه ، أو منع ما أمضاه ، قال القرطبي – رحمة الله - : فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الله – سبحانه وتعالى – هو الغالب على الإطلاق ، فمن تمسك به فهو الغالب ولو أن جميع من في الأرض طالب قال تعالى : ( كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) (المجادلة :21) ومن أعرض عن الله تعالى وتمسك بغيره كان مغلوباً وفي حبائل الشيطان مقلوباً.
والنصير: معناه الذي تولى نصر عباده، وتكفل بتأييد أوليائه، والدفاع عنهم، والنصر لا يكون إلا منه، فالمنصور من نصره الله، إذ لا ناصر للعباد سواه، ولا حافظ إلا هو، قال الله تعالى: ( إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ) (آل عمران:160)، وقال تعالى: ( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )(الروم :47).
وقد ذكر الله – سبحانه – في مواضع عديدة من القرآن الكريم منته على أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ )(غافر:51)، وقال تعالى: ( لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِن كَثِيرَةٍ َ)(التوبة :25)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ ) (الصافات : 114-116).
وأخبرهم أنهم لا يطلبون نصرهم إلا منه ، ولا يلجأون لنيله إلا إليه ، ففي دعاء نوح – عليه السلام - : (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ )(المؤمنون :26)، وفي دعاء لوط – عليه السلام – (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ )(العنكبوت :30)، وفي دعاء نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين : ( أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) (البقرة :286) وفي سنن أبي داود – والحديث صحيح- عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا غزا قال : " اللهم أنت عضدي ونصيري بك أحول وبك أصول وبك أقاتل " .
وأخبر – سبحانه - أن الكفار لا ناصر لهم ، قال الله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ) (آل عمران:56)، وقال تعالى للمؤمنين : ( وَلَوْ قَاتَلَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) ( الفتح : 22- 23) ، وهو خطاب للمؤمنين الذين قاموا بحقائق الإيمان الظاهرة والباطنة بأنهم هو المنصورون وأن العاقبة الحميدة لهم في الدنيا و الآخرة.
و لهذا فإن المؤمنين ما لم يجاهدوا أنفسهم على تحقيق الإيمان و الإتيان بمقومات النصر على الأعداء, لا يتحقق لهم نصر؛ بل يتسلط عليهم أعداؤهم بسبب ذنوبهم وتقصيرهم , قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " وحيث ظهر الكفار فإنما ذلك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم , ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله كما قال الله تعالى : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ( آل عمران : 139 ) وقال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران : 165) فيحتاج العباد للانتصار على العدو الظاهر أن يجاهدوا العدو الباطن من النفس الأمارة بالسوء و الشيطان فما لم ينتصروا على هذا العدو فلا نصر لهم.
وقال ابن القيم – رحمه الله -: " فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوه من طاعة الله تعالى , فالمؤمن عزيز, عالم, مؤيد, منصور, مكفي مدفوع عنه بالذات أين كان, ولو اجتمع عليه من بأقطارها إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ظاهراً وباطنا, وقد قال الله تعالى للمؤمنين: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) ( محمد : 35 ) فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم و أعمالهم التي هي جند من جنود الله يحفظهم بها, و لا يفردها عنهم, ويقتطعها عنهم, فيبطلها عليهم, كما بتر الكافرين والمنافقين أعمالهم؛ إذ كانت لغير الله, ولم تكن موافقة لأمره" أ هـ.
هذا ونسأل الله الكريم أن يصلح أحوال المسلمين, وأن يقيهم شر أعدائهم, و أن يحفظ على المسلمين أمنهم و إيمانهم , وأن يكف بأس الذين كفروا , والله أشد بأساس, وأشد تنكيلا, وأن يعز دينه, ويعلي كلمته, وأن ينصرنا على القوم الكافرين, و الله – عز وجل – حافظ لمن لجأ إليه , وكاف من اعتصم به , فنعم المولى و نعم النصير .
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا. اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لرضاك، واجعل عمله في رضاك، اللهم وفقه وإخوانه وأعوانه لما فيه صلاح العباد والبلاد، اللهم هيئ له البطانة الصالحة يا رب العالمين.
اللهم فرّج هم المهمومين من المسلمين ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين وفك أسر المأسورين واشف برحمتك مرضانا ومرضى المسلمين. وارحم موتانا وموتى المسلمين يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا تقبّل منّا إنك أنت السميع العليم، وتبّ علينا إنك أنت التواب الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
|