منزلة الشكر
الحمد لله البر الرحيم،
الجواد الكريم، ذي الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
المتفرد بالكمال وحسن الأفعال، والبر الجسيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي هو
بالمؤمنين رءوف رحيم، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم فسلك
الصراط المستقيم.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المصلين
واحمدوه على وافر نعمه ومننه .
ومِنْ
مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الشُّكْرِ
وَهِيَ مِنْ أَعْلَى الْمَنَازِلِ.
وَهِيَ فَوْقَ مَنْزِلَةِ الرِّضَا وَزِيَادَةٌ. فَالرِّضَا مُنْدَرِجٌ فِي
الشُّكْرِ. إِذْ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ الشُّكْرِ بِدُونِهِ.
وَهُوَ نِصْفُ الْإِيمَانِ
فَالْإِيمَانُ نِصْفَانِ: نِصْفٌ شُكْرٌ. وَنِصْفٌ صَبْرٌ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. وَنَهَى
عَنْ ضِدِّهِ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ. وَوَصَفَ بِهِ خَوَاصَّ خَلْقِهِ.
وَجَعَلَهُ غَايَةَ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ. وَوَعَدَ أَهْلَهُ بِأَحْسَنِ جَزَائِهِ.
وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ. وَحَارِسًا وَحَافِظًا لِنِعْمَتِهِ.
وَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَهُ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِآيَاتِهِ. وَاشْتَقَّ لَهُمُ
اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الشَّكُورُ وَهُوَ يُوَصِلُ
الشَّاكِرَ إِلَى مَشْكُورِهِ بَلْ يُعِيدُ الشَّاكِرَ مَشْكُورًا. وَهُوَ غَايَةُ
الرَّبِّ مِنْ عَبْدِهِ. وَأَهْلُهُ هُمُ الْقَلِيلُ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ} وَقَالَ {وَاشْكُرُوا لِي
وَلَا تَكْفُرُونِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ
وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ} .
وَسَمَّى نَفْسَهُ شَاكِرًا وَشَكُورًا
وَسَمَّى الشَّاكِرِينَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ. فَأَعْطَاهُمْ مِنْ وَصْفِهِ.
وَسَمَّاهُمْ بِاسْمِهِ. وَحَسْبُكَ بِهَذَا مَحَبَّةً لِلشَّاكِرِينَ وَفَضْلًا.
وَإِعَادَتُهُ لِلشَّاكِرِ مَشْكُورًا.
كَقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} وَرِضَا الرَّبِّ عَنْ عَبْدِهِ بِهِ.
كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} وَقِلَّةُ أَهْلِهِ فِي الْعَالَمِينَ تَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُمْ هُمْ خَوَاصُّهُ. كَقَوْلِهِ: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ
الشَّكُورُ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ. فَقِيلَ لَهُ: تَفْعَلُ
هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟
فَقَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟» . فمن عظمت عليه نعم الله وجب عليه
أن يتلقاها بعظيم الشكر، لاسيما أنبياءه وصفوته من خلقه الذين اختارهم , وخشيةُ
العباد لله على قدر علمهم به.
«وَقَالَ لِمُعَاذٍ وَاللَّهِ يَا
مُعَاذُ، إِنِّي لَأُحِبُّكَ. فَلَا تَنْسَ أَنْ تَقُولَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ:
اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» رواه أبو
داود وغيره.
وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَدْعُو بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ:
اللَّهُمَّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ. إلى قوله رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ
ذَكَّارًا لَكَ » .
وحَقِيقَة الشكر فِي الْعُبُودِيَّةِ وَهُوَ
ظُهُورُ أَثَرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ عَبْدِهِ:
ثَنَاءً وَاعْتِرَافًا. وَعَلَى قَلْبِهِ:
شُهُودًا وَمَحَبَّةً. وَعَلَى جَوَارِحِهِ: انْقِيَادًا وَطَاعَةً..
بارك الله لي ولكم في
القرآن العظيم ؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ؛ أقول ما تسمعون
واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية
الحمد لله رب العالمين،
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها المؤمنون : وَالشُّكْرُ مَبْنِيٌ
عَلَى خَمْسِ قَوَاعِدَ:
خُضُوعُ الشَّاكِرِ لِلْمَشْكُورِ.
وَحُبُّهُ لَهُ.
وَاعْتِرَافُهُ بِنِعْمَتِهِ.
وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِهَا.
وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهَا فِيمَا يَكْرَهُ.
فَهَذِهِ الْخَمْسُ: هِيَ أَسَاسُ
الشُّكْرِ. وَبِنَاؤُهُ عَلَيْهَا. فَمَتَى عُدِمَ مِنْهَا وَاحِدَةً: اخْتَلَّ
مِنْ قَوَاعِدِ الشُّكْرِ قَاعِدَةٌ.
وَالشُّكْرُ مَعَهُ الْمَزِيدُ أَبَدًا.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} فَمَتَى لَمْ تَرَ
حَالَكَ فِي مَزِيدٍ. فَاسْتَقْبِلِ الشُّكْرَ.
وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ
شُكْرٌ. كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ
فَلْيَجْزِ بِهِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَجْزِي بِهِ فَلْيُثْنِ. فَإِنَّهُ
إِذَا أَثْنَى عَلَيْهِ فَقَدْ شَكَرَهُ. وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ، وَمَنْ
تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطَ كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» . رواه ابو داود
والبخاري في الأدب المفرد .
فَذَكَرَ أَقْسَامَ الْخَلْقِ
الثَّلَاثَةَ: شَاكِرُ النِّعْمَةِ الْمُثْنِي بِهَا، وَالْجَاحِدُ لَهَا
وَالْكَاتِمُ لَهَا. وَالْمُظْهِرُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَيْسَ مِنْ
أَهْلِهَا. فَهُوَ مُتَحَلٍّ بِمَا لَمْ يُعْطَهُ.
وَقَوْلُهُ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ
شُكْرًا} أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمُ اعْمَلُوا شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ
عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ. فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الشُّكْرَ
يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَبِالنِّيَّةِ . قالَ أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبلي : الصَّلَاةُ
شُكْرٌ، وَالصِّيَامُ شُكْرٌ، وَكُلُّ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ لِلَّهِ شُكْرٌ.
وَأَفْضَلُ الشُّكْرِ الْحَمْدُ.
وورد في الأثر قَالَ فَضِيلٌ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} . فَقَالَ دَاوُدُ عليه
السلام : يَا رَبِّ، كَيْفَ أَشْكُرُكَ، وَالشُّكْرُ نِعْمَةٌ مِنْكَ؟ قَالَ:
"الْآنَ شَكَرْتَنِي حِينَ عَلِمْتَ أَنَّ النِّعْمَةَ مِنِّي".
اللهم أعنا
على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وأن نعمل صالحا ترضاه، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم آمنّا في
الأوطان والدور، واصرف عنا الفتن والشرور، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم
بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين،
اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين
من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم
وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار،
اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الحوثيين
المجرمين وأعوانهم وحلفائهم الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك وبيتك الحرام
اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم
المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ
الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
*ملاحظة:
الخطبة مقتبسة من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا: http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|