إنارة المؤمنين بمنزلة اليقين
الحمد لله البر الرحيم، الجواد الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، ذي الفضل العظيم والبر الجسيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي هو بالمؤمنين
رءوف رحيم، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم فسلك الصراط المستقيم.
أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المؤمنين واحمدوه على وافر نعمه ومننه .
واعلموا
أن من منازل إياك وإياك نستعين منزلة " اليقين"
واليقين
: هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، الموجب للعمل .
فاليقين
أرقى درجات الإيمان ، وأخص صفات أهل التقوى والإحسان ، قال تعالى (الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ
عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .
اليقين
أعلى منازل عبادات القلوب، وعليه مدارها، وهو بمنزلة الروح لأعمال القلوب التي هي أرواح
لأعمال الجوارح.
قال ابن
القيم :" اليقين به تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون،
وهو مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهما يُمدان سائر الأعمال
القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال، وبقوتهما تقوى الأعمال،
وجميع منازل السائرين إنما تُفتتح بالمحبة واليقين، وهما يثمران كل عمل صالح، وعلم
نافع، وهدى مستقيم" .
ولجلالة
منزلة اليقين في عبادات القلوب حثت السنة النبوية على أن يدعى الله ويسأل أن يرزق به
:
فقد قام
الصديق رضي الله عنه خطيبا فقال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ ، إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطَوْا فِي الدُّنْيَا خَيْرًا مِنَ الْيَقِينِ
، وَالْمُعَافَاةِ ، فَسَلُوهُمَا اللهَ ، عَزَّ وَجَلَّ.أخرجه أحمد . صحيح لغيره.
عباد
الله إن لأهل اليقين صفات ينبغي معرفتها حتى يجتهد العبد بالاتصاف بها فمنها : هوان
مصائب الدنيا عليهم وراحة النفس وطمأنينة القلب فيما يفوت من حظوظ الدنيا ، ثقة بموعود
الله ، ورجاء العوض والخلف منه سبحانه: ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم
: "اللهم قْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ
، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ
بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا ، اللهم أمتعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا
وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا ، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا ، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا
عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا ، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا ، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا
فِى دِينِنَا ، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا ، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا
، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا" أَخْرَجَهُ الترمذي عن ابن
عمر رضي الله عنه .
وهوان
المصيبة ، والتحلي بالصبر تجاهها : هذا يتفاوت فيه العبد على حسب تفاوت اليقين في القلوب
، فأعظم الناس صبرا ، هو أعظمهم يقينا ، وكلما ترقى العبد في مراتب اليقين = ترقى في
مراتب الصبر ، كما قال تعالى (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ
الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)
ومن صفاتهم
: قوة توكلهم على الله واستشعار معيته لهم : قال سبحانه : ( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ
نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا
فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) .
ومن صفاتهم
كثرة إنفاقهم في سبيل الله ليقينهم التام بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ، وأن
الرزق ليس بيد أحد من البشر وإنما هو بيد الله تعالى وحده ، قال سبحانه : ( وَفِي الْأَرْضِ
آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ
رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ
مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) .
ومنها
: أن من سيماهم الخشوع والاستقامة : قال الحسن البصري رحمه الله : "ما أيقن عبد
بالجنة حق يقينها ، إلا خشع ووجل وذل واستقام واقتصر حتى يأتيه الموت" .
ومن سيماهم
: زهدهم في الدنيا وقصر أملهم فيها : فلا تتعلق نفس الموقن بها، ولا يتشبث بُحطامها،
وإنما يكون زاهداً فيها؛ لأنه يعلم أنها ليست موطناً له، ولأنه يعلم أنها دار ابتلاء،
وأنه فيها كالمسافر يحتاج إلى مثل زاد الراكب، ثم بعد ذلك يجتاز ويعبر إلى دار المقام،
فهو بحاجة إلى أن يشمر إليها، وأن يعمل لها .
ومن سيماهم
عظيم انتفاعهم بآيات الله الكونية والشرعية ، كما قال تعالى وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم ؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه
هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله
وصحبه أجمعين، أما بعد:
عباد
الله : أما عن كيف الوصول إلى هذه المنزلة العالية , فبطرق كثيرة جماعها مقامان :
الأول
: مقام الرسوخ في العلم النافع ، بكثرة النظر والبحث فيه ، والنظر في شواهده ودلائله
الصحيحة .
ثم بذل
الوسع في فعل المأمور ، والمجاهدة والمصابرة عليه ، واجتناب المنهي عنه ، حتى تتزكى
النفس ، وتتخلص من حظوظها ويسلم القلب ويصفو ويزداد الإيمان حتى يبلغ مرتبة اليقين
.
وأعظم
أبواب تحصيل اليقين: العناية بكلام رب العالمين ، تلاوة ، وتدبرا ، وعلما، وعلما .
قال بعض العلماء : " وَاعْلَمْ أَنَّ قُوَّةَ الدِّينِ وَكَمَالَ الْإِيمَانِ
وَالْيَقِينِ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِكَثْرَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَاسْتِمَاعِهِ،
مَعَ التَّدَبُّرِ بِنِيَّةِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
اللهم قْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
مَعَاصِيكَ ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ ، وَمِنَ الْيَقِينِ
مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا ، اللهم أمتعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا
وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا ، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا ، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا
عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا ، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا ، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا
فِى دِينِنَا ، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا ، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا
، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي
لأحسنها إلا أنت، واصرف عنّا سيئها لا يصرف عنّا سيئها إلا أنت يا ذا الجلال والإكرام،
اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار،
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم آمنّا في الأوطان والدور، واصرف
عنا الفتن والشرور، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصارا
لدينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين
من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان،
اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين،
اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم
شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الحوثيين المجرمين وأعوانهم وحلفائهم الذين يصدون
عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك وبيتك الحرام اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل
بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ
أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ الوليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |