فضل عشر ذي الحجة
خطبة جمعة بتاريخ / 30-11-1437 هـ
إنّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده اللهُ فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ،
وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله ، وصفيّه
وخليله ، وأمينه على وحيه ، ومبلِّغ النّاس شرعه ، ما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة
عليه ، ولا شرًا إلا حذرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى ، وراقبوه جل في علاه
في الغيب والشهادة والسر والعلانية مراقبة من يعلمُ أنّ ربَّه يسمعُه ويراه .
أيها المؤمنون : يستقبل
المسلمون موسمًا عظيما هو أشرف مواسم الطاعة ، وميدانًا فسيحًا للتسابق والتنافس
في العبادة ، وهو أشرف ميادينها وأعظم مواطن التنافس فيها ؛ ألا وهي -يا عباد الله-
العشر الأوَل المباركات من شهر ذي الحجة ، فإنها -يا عباد الله- خير أيام السنة
وأفضل مواسم التنافس في العبادة ، غنَّمنا الله أجمعين خيراتها وبركاتها ، ورزقنا
أجمعين حُسن العمل فيها .
عباد الله: إنَّ
من شرف هذه الأيام أن الرب جل في علاه أقسم في محكم تنزيله بها تشريفًا لها قال جل
في علاه : ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر:1-2] ، والمراد
بالليال العشر في قول ابن عباس وغير واحد من السلف : أي الأوَل من شهر ذي الحجّة ،
وهي الأيام المعلومات التي ذكرها الله عز وجل معظمًا لها وذلك في قوله جل في علاه:
﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ
يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ
(27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ ﴾ [الحج:27-28] .
أيها
المؤمنون : ينبغي على كل مسلم أن يدرك شرف هذه العشر وأن يعرف عظم قدرها ورفيع مكانتها
وعظيم شأن العمل الصالح فيها ؛ روى الإمام البخاري في كتابه الصحيح وأبو داود في
سننه وأحمد في مسنده وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى
اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ)) يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ ، قَالُوا: «يَا
رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟» قَالَ: ((وَلَا
الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ
فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)) . وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ
عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ
الْعَشْرِ ؛ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ
وَالتَّحْمِيدِ)) .
أيها
المؤمنون: إنها أيام عظيمة وسرعان ما تنقضي ، لكن الموفَّق من عباد الله من يسارع لاغتنامها
ويبادر للمنافسة فيها فلا يفوِّت على نفسه فضلها وشرفها ورفيع مكانتها ، فإنَّ
الصلاةَ فيها ليست كالصلاة في غيرها ، والصدقةَ فيها ليست كالصدقة في غيرها ، وذكرَ الله جل وعلا فيها ليس كذكره في غيرها ؛ لما لها من عظيم
الشرف ورفيع المكانة وأنها أحب أيام العمل الصالح إلى الله تبارك وتعالى .
أيها
المؤمنون : ولهذا ينبغي على عبد الله المؤمن الناصح لنفسه أن يعرف أولًا عظيم
قدرها ورفيع مكانتها عند الله عز وجل ، ثم ثانيًا يتوكل على الله ويستمدُّ منه
العون ويستمنح منه التوفيق جل في علاه أن يغنِّمه خيرات هذه العشر العظيمة
وبركاتها الجسيمة ، ثم من بعد ذلك يجاهد نفسه مجاهدة تامة على اغتنامها وانتهاز
فرصتها الثمينة والله جل في علاه يقول: ﴿ وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69]
.
أيها
المؤمنون : أرأيتم تجَّارَ الدنيا الحريصون عليها أشدَّ الحرص كيف أنهم إذا جاءت
مواسم التجارة الدنيوية الرابحة يواصلون ليلهم بنهارهم ويبذلون جدَّهم ونشاطهم حتى
إن بعضهم بعد انقضاء تلك المواسم ليسقط مريضًا من شدة نصَبه وتعبه في سبيل تحصيل
شيء من حطام الدنيا ، وأهلُ الله وصفوته وخاصته أهل التجارة الرابحة والغنيمة
البينة الواضحة التجارة الأخروية لا يفوِّتون هذه الفرصة العظيمة والموسم الثمين ،
بل يجدِّون ويجتهدون وعلى الله جل في علاه قصد السبيل . نسأله جل في علاه بأسمائه
الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا أجمعين لتعظيم هذه العشر وحُسن العمل فيها .
لقد كان
لهذه العشر -يا معاشر العباد- عند السلف شأنٌ عظيم ومكانةٌ علية ؛ روى المروزي في
كتابه قيام الليل عن أبي عثمان النهدي رحمه الله تعالى قال : « كَانُوا -أي السلف-
يُعَظِّمُونَ ثَلَاثَ عَشَرَاتٍ ؛ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنَ الْمُحَرَّمِ ,
وَالْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ , وَالْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ
رَمَضَانَ» . وكانوا يجتهدون في عشر ذي الحجة عبادةً وتقربًا إلى الله عز وجل
اجتهادا عظيما ، فقد كان سعيد بن جبير رحمه الله تعالى -فيما رواه الدارمي في سننه-
إذا دخلت العشر الأوَل من شهر ذي الحجة اجتهد فيها اجتهادًا شديدا حتى ما يكاد يقدِر
؛ أي من شدة اجتهاده رحمه الله .
فعلينا عباد
الله أن ندرك فضلها وعظيم قدرها ، وأن نجاهد أنفسنا على حسن العمل فيها .
تولانا الله عز وجل أجمعين
بالتوفيق والتسديد والمعونة والهداية ، وأصلح لنا شأننا كله إنه سميع الدعاء وهو
أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ
محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد عباد
الله : اتقوا الله ؛ فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه .
عباد الله : روى البزار من
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الحاج
والعمَّار وفد الله ؛ دعاهم فأجابوه ، وسألوه فأعطاهم)) ؛ انظر رعاك الله إلى هذا
الشرف العظيم والمكانة العلية لهذا الوفد المبارك حجاج بيت الله الحرام ، فهم وفد
الله جل في علاه وهم ضيوف الرحمن .
عباد الله : وحُقَّ لوفدٍ
بهذا الشرف وهذه المكانة أن يُكرم وأن يُحتفى به وأن يُعرف له قدره ومكانته وبخاصة
من أهل الحرمين ، قيامًا بالواجب نحو حجاج بيت الله ؛ احترامًا لهم وتوقيرا ومعرفةً
بقدرهم ومكانتهم العظيمة ، مع الجد والاجتهاد في النصح لهم ، والإحسان إليهم
والعمل على إكرامهم ، والبُعد الشديد عن الإساءة إليهم بأي إساءة كانت قولية أو
فعلية ؛ فإنهم وفدٌ شريف وضيوفٌ كرام ومكانتهم عظيمة ، وإنَّ من عظيم الإحسان في
هذه الأيام أن تخص حجاج بيت الله بدعوات صادقة أن يحفظهم رب العالمين ، وأن يسلِّمهم
وأن يغنِّمهم خيرات الحج وبركاته، وأن يرزقهم فيه غفران الذنوب ونيل الرضوان
والفوز بالجنان ، وأن يعيدهم إلى أوطانهم سالمين غانمين قد حُطت عنهم الأوزار
وتجاوز الله عن خطاياهم وسيئاتهم ، والمؤمنون دعوتهم واحدة وهم كالجسد الواحد في
نصحهم ودعائهم ومحبة الواحد منهم الخير لإخوانه كما يحب لنفسه .
فنسأل الله جل في علاه أن يحفظ حجاج بيت الله وأن يتولاهم بالمعونة
والتوفيق ، وأن يرزقهم اليُمن والأمان والعافية والمعافاة ، وأن يغنِّمهم خيرات
هذا الحج وبركاته العظيمة ، وأن يغفر لنا ولهم ولجميع المسلمين ، ونسأل الله جل في
علاه أن يجزي ولاة أمرنا خير الجزاء على ما يقومون به من جهود عظيمة وأعمالٍ كبيرة
خدمةً لحجاج بيت الله الحرام ، وأن يبارك في جهودهم وأن يتقبلها منهم بقبول حسن .
وصلّوا وسلّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما
أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى
الله عليه وسلم : ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل
إبراهيم إنك حميد مجيد . وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الراشدين ؛ أبي بكرٍ وعمرَ
وعثمانَ وعلي ، وارضَ اللّهمّ عن الصّحابة أجمعين ومن اتبعهم بإحسانٍ إلى يوم
الدين ، وعنّا معهم بمنِّك يا أكرم الأكرمين.
اللّهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك
محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم
كُن لهم ناصرًا ومُعينا وحافظًا ومؤيدا ، اللهم احفظ حدودنا وآمن جنودنا وأيِّدهم
بتأييدك يا رب العالمين . اللّهمّ آمنَّا في أوطاننا وأصلح أئمّتنا وولاة أمورنا ،
واجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللّهم وفِّق ولي أمرنا
لهداك ، واجعل عمله في رضاك ، اللهم وسدِّده ونائبيه في أقوالهم وأعمالهم يا ذا
الجلال والإكرام .
اللّهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم
اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات
الأحياء منهم والأموات . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب
النار . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة عن فضل عشر ذي الحجة
وموسم الحج تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=130
|