شأن التكبير الخطبة الأولى : إِنَّ الحمدَ للهِ
نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ
أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا
إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ (( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (( يَا
أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ
لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
)) ، أما بعد: فإن خير الكلام كلام
الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة
بدعة ، وكل بدعة ضلالة . أيها المؤمنون عباد الله : فرَّ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الطائي من رسول الله
صلى الله عليه وسلم وكان رجلاً نصرانياً ، ثم بعد ذلك قدم عليه بِغَيْرِ أَمَانٍ وَلَا
كِتَابٍ ، فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام بيد عدي وذهب به إلى بيته وأجلسه بين يديه
وأخذ يعظه ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ يا عدي : ( مَا يُفِرُّكَ
أَنْ تَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ . فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إِلَهٍ سِوَى اللَّهِ
؟ ) . قَالَ : قُلْتُ : لَا . قَالَ : ثُمَّ تَكَلَّمَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ : «إِنَّمَا
تَفِرُّ أَنْ تَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ ، وَتَعْلَمُ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنَ اللَّهِ
؟ ) قَالَ : قُلْتُ : لَا ) الحديث .. حديث حسن [رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن خزيمة وابن حبان]. ( وَتَعْلَمُ شَيْئًا أَكْبَرَ مِنَ اللَّهِ )
[تُكَرَّر] ،، هل تعلمون عباد الله شيئاً أكبرَ من الله ؟ وهو (( الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ
)) الذي (( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ )) (( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ
حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ )) عباد الله : ( الله أكبر ) ،، جُملة عظيمة مباركة ، ما أكثر ما تقرع أسماعنا ،
وتتلفَّظ بها ألسنتنا . في الأذان اليومي خمس مرات ثلاثون تكبيرة ، ويردد
المسلمون كلُّهُم خلف مؤذنيهم . وفي الإقامة الخمس مرات عشرون تكبيرة ، تقرع الآذان
. وفي الصلوات الخمس المكتوبة في اليوم والليلة :
أربع وتسعون تكبيرة . وبعد الصلوات الخمس في الذكر دبرها في اليوم والليلة
: مائة وخمس وستون تكبيرة . وفي السنن الرواتب الاثنتي عشرة ركعة : ست وستون
تكبيرة . وفي صلاة الليل والوتر الإحدى عشرة ركعة : إحدى
وستون تكبيرة . فالتكبير شعار أئمة المسلمين في صلاتهم في قيادة
الْمُصلّين نحو الاقتداء ، يكبر الأئمة في صلاة الجماعة ويُكبِّر المصلون بعد تكبيرهم
، في مُتابعةٍ وانتِظامٍ دقيق خاضعين للعظمة الربانية في القيام والقعود والركوع والسجود.
هذا هو ارتباط التكبير بصلاتنا اليومية وحدها :
تحريمها ، وافتتاحها ، والانتقال بين أركانها ، والنداء لها وإقامتها كله بالتكبير
، والذكر بعدها ثلثه التكبير . أفلا يستحق هذا الذكر العظيم استشعارَنا لمقتضاه
، واعتقادَنا لمعناه ، وإحساسنا بأسراره وفضائله . عباد الله : وكما ارتبط التكبير بالصلاة ، فأيضاً شرع لنا أن
نختم به رمضان (( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ
)) يكبر المسلمون ليلة عيد الفطر ويومه ، ويزيد الأئمة في صلب صلاة العيدين ست تكبيرات
في الركعة الأولى وخمس تكبيرات في الركعة الثانية . ويرتبط التكبير بشعائر الحج بشكل كبير .. فيبدأ
كل شوط من الطواف بالتكبير ، وفوق الصفا وفوق المروة في كل مرة يشرع التكبير ، وعند
رمي كل جمرة من الجمار يشرع التكبير ، وعلى الهدايا والأضاحي يشرع التكبير ( بِسْمِ
اللَّـهِ وَاللهُ أكْبرُ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ) (( كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ )) من أجل التوحيد (( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا )) . ومن أول يوم من ذي الحجة إلى غروب شمس أخر يوم من
أيام التشريق يشرع الإكثار من التكبير للحاج ولغير الحاج ، في أيام فاضلة هي أفضل أيام
الدنيا ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ
اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ
؛ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ والتَّحْمِيدِ ) حديث حسن رواه أحمد وغيره . وفي السفر للحج ولغير الحج .. دعاء السفر مفتتح
بالتكبير .. وعند صعود كل شرف أي مرتفع . وعند ركوب الدابة أو أي مركوب ناقل يشرع التكبير
ثلاثا ضمن دعاء معروف . وعند النوم يستحب التكبير أربعا وثلاثين بعد التسبيح
والتحميد ثلاثاً وثلاثين . وعند رؤية هلال كل شهر كان رسول اللّه صلى الله
عليه وسلم يقول: (( اللَّهُ أكْبَرُ ، اللَّهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنا بالأمْنِ والإِيْمَانِ
والسَّلامَةِ والإِسلامِ وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، رَبُّنا وَرَبُّكَ
اللَّهُ )) أخرجه الدارمي وصححه الألباني . وبالتكبير تَهْتز جحافل الكافرين وتتخلخل صفوفهم
ويُلقى الرعب في قلوبهم ، فسيفتح المسلمون عاصمة الروم القديمة القسطنطينية في آخر
الزمان بالتهليل والتكبير يقول المسلمون :
(لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا ،
ثُمَّ يَقُولُوا الثَّانِيَةَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ، فَيَسْقُطُ
جَانِبُهَا الْآخَرُ) كما جاء في صحيح مسلم . وعند سماع بشارة الخير يشرع التكبير : فقد كبر الصحابة
لما بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم ( أن هذه الأمة نصف أهل الجنة ) متفق عليه . فيا عباد الله : اعرفوا قدر التكبير وجليل شأنه ، وأكثروا منه مقابل
ما رزقكم ربكم وما هداكم . وارفعوا أصواتكم به هذه الأيام . واعلموا أنه (
ما أَهَلَّ مُهِلٌّ قَطُّ ، ولا كبَّرَ مُكَبِّرٌ قَطُّ ، إلَّا بُشِّرَ ) ، قيل :
يا رسول الله بالجنَّة ؟ قال : نعم ) حديث ثابت . وتذكروا أن ( الله أكبر ) أحد الباقِيات الصالِحات ، التي
هي أحبّ الكلام إلى الله ، الجمل الأربع : ( سُبْحَانَ اللهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَاللهُ أَكْبَرُ ) ، وكل ما ورد في فضل هذه الكلمات
الأربع هو فضل ثابت للتكبير . وبعض صيغ التكبير تفتح لها أبواب السماء . كما في
صحيح مسلم وفي فضل التكبير أيضاً قال البشير صلى الله عليه
وسلم : ( التَّسْبِيحُ نِصْفُ المِيزَانِ ، وَالْحَمْدُ يَمْلَؤُهُ ، وَالتَّكْبِيرُ
يَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ) حديث حسن. فالله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلاً . بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات
والحكمة، أقول قولي هذا ، واستغفر الله لي ولكم إن هو الغفور الرحيم . الخطبة الثانية : الحمد لله حمداً كثيراً,
والله أكبر كبيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً
،، أما بعد: أيها الناس : من أسماء ربنا الحسنى : الكبيرُ والمتكبر . والتكبير ذكر لله بصفة الكبرياء التي تضمنها هذان
الاسمان الحسنان . فالكبير الذي له جميع معاني الكبرياء والعظمة والجلال
والقوة والعزة وكمال القدرة والمجد وغيرها . فاعتقدوا عباد الله أن الله أكبرُ من كل شيءٍ في ذاته وفي صفاته وأفعاله
وفي شأنه وملكه وسلطانه ، فكل شيء دونه صغير حقير . ومن عظمته سبحانه أن السموات السبع
والأرضين السبع في يده كخردلة في يد أحدنا . عباد الله : للتكبير واعتقاد العظمة والكبرياء ثمرات : ففيه تحقيق التوحيد في القلوب بالتواضع والذل والخضوع
والإخبات لله ، وإخلاص الدين لله ، فيزيد التكبير في القلوب الخشية والرَّهبة والهيبة
والإجلال للعلي الكبير ، فوا عجبا كيف تتذلل قلوب لغير الله وتسأل جلب النفع ودفع الضر
من غير الله العظيم . يسمع نداء غير الله في عشية عرفة من حجاج لبوا وكبروا
، فسبحان ربي من أضل هؤلاء عن التوحيد والتعظيم لربهم الذي قد دنا منهم ؟ ويريد أن
يتوب عليهم ويغفر لهم ، لنكه لا يغفر أن يشرك به . وفي التكبير التقرب إلى الله والتعبد بما يحب من الثناء والتعظيم
والتمجيد ، ويحصل بالتكبير عبودية القلوب واستعانتها لله مع الألسن . ومن آثار التكبير: قوة الثقة بالله وصدق التوكل عليه ، وتفويض الأمور
إليه ، والشعور بالطمأنينة والقوة المعنوية ، لشعور العبد بأنه يتعامل مع رب عظيم كبير
متعال قاهر غالب هو وجنده وحزبه وأولياؤه . والتكبير ينقي سريرة العبد من الكبر الذي يبغض الله أهله
ويتوعدهم بأشد العقاب ، لأنهم منازعون له في خالص حقه ( الكبرياء والعظمة ) ، لذا يقول
الله جل وعلا في الحديث القدسي : ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ، من نازعني واحداً
منهما عذبته الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي ، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي
وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ ) وفي رواية : (قَذَفْتُهُ أَوْ أَكْبَبْتُهُ
فِي النَّارِ ) صحيح [ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ، وهو في صحيح مسلم بلفظ مقارب ] ، وهذا يدل على أن الكبرياء والعظمة صفتان مختصتان
بالله لا يشاركه فيهما أحد من خلقه ، فاللائق بالمخلوق التواضع والخضوع لربه ، وفي
الكتاب : (( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ)) ، وقد صح عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده وركوعه : (سُبْحَانَ ذِي الجَبَرُوتِ
وَالمَلَكُوتِ وَالكِبْرِيَاءِ وَالعَظَمَةِ) حديث صحيح [أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ]. وبعد عباد الله : لِماذا يقل تكبيرنا ، مع هذه الفضائل والآثار ،
كبروا واملؤا الدنيا تكبيراً في خير أيام الدنيا ، تُجار الدنيا يفرحون بِمواسم مضاعفة
الأرباح ، أفلا نفرحُ ونستثمر موسم مضاعفة الحسنات . فارفعوا أيها الناس أصواتكم بالتكبير الْمطلق ورطبوا
ألسنتكم به ، في جميع الأوقات ، وبالتكبير الْمقيد دبر الصلوات الذي يبدأ لغير الحاج
من فجر يوم عرفة . اللهم إنا على ذكرك
وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنَّا نسأَلُك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق
في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى. ونسألك نعيما لا ينفد، ونسألك قرة
عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت. ونسألك لذة النظر
إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة. اللهم زيّنا بزينة الإيمان
واجعلنا هداة مهتدين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا
مبلغ علمنا ، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألْحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين
، اللهم ألّف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور
وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا
وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قابليها
وأتمها علينا يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام . عباد الله: اذكروا الله
يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون . وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
|